lundi 30 mai 2016

الحجاج في قصة إبراهيم عليه السلام {لا أحب الآفلين}

        بسم الله الرحمن الرحيم


                                                                                          
تمهيـد:
ارتبطت القصة في القرآن الكريم بالدعوة إلى الله. فحازت نصيبها من الحجاج باعتبارها حجة في ذاتها، ثم باعتبار أساليب التبليغ التي تعتمدها.
والبحث في القصص القرآني يقتضي جملة من الاحتياطات المنهجية ذات الصلة بالنص القرآني عموما، وبالقصة القرآنية على وجه الخصوص. فالقرآن كلام الله، وهو «حجاجي في مجمله» ([1]) لكن حجاجيته لا تنفي وجوها ومعاني أخرى.
وربط القصة بمحيطها تستدعيه الاعتبارات السياقية والبلاغية والبنائية. فالقصص القرآني مباين للقصص الإنساني، والقصة القرآنية واقعية وربانية تخلو من الخرافات والخيال وتجمع بين الحقيقة والجمال، وتدعو في بنائها وتنوعها وأحداثها وأسلوبها إلى التدبر.

قال تعالى: ﴿نحن نقص عليك أحسن القصص([2])، وقال تعالى: ﴿فاقصص القصص لعلهم يتفكرون([3]). والقصة القرآنية نوعان:
أ- قصص نزل به القرآن: وأريد به تثبيت فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمومنين([4]).
ب- قصص نزل من أجله القرآن: وهي الأحداث والوقائع التي جاء القرآن الكريم ليعطي فيها العبرة ويكشف سر أصحابها من براءة أو خيانة أو صدق أو كذب([5]).
ثم إن البحث الحجاجي في قصة إبراهيم عليه السلام يضعنا أمام مجموعة من الاعتبارات الوجيهة أهمها:
- إن القصة واحدة في هدفها أي الدعوة إلى التوحيد، ومتنوعة في صورها، فقد وردت في القرآن الكريم في عدة مواضع، وفي سياقات مختلفة، وآيات متعددة، وبأحجام متفاوتة وأحداث متغايرة.
- أن إبراهيم عليه السلام حاجج بالحوار، وجادل وقاوم المغالطة بالاستدلال والمثال، سواء مع أبيه أو مع قومه، فسلك بذلك كل الطرق الممكنة في الدحض والإثبات.
- أن الشخصيات والأحداث والزمان والمكان وغيرها من مقومات القص كانت في خدمة موضوع واحد هو التوحيد ونبذ الشرك.
- أن الحوار كان مهيمنا على باقي المقومات التي تقوم عليها القصة ونظرا إلى هذه الاعتبارات سنحاول قراءة قصة إبراهيم عليه السلام باعتبارها خطابا حجاجيا نختبر فيه الأداء الحجاجي للأطراف.
1. أطراف الحوار في قصة إبراهيم عليه السلام:
حدد الحق سبحانه أطراف الحوار في قصة إبراهيم في: إبراهيم وأبيه وقومه، قال تعالى: ﴿وإذ قال إبراهيم لأبيه آزر أتتخذ أصناما آلهة، إني أراك وقومك في ضلال مبين([6]). وقال تعالى: ﴿ولقد آتينا إبراهيم رشده من قبل وكنا به عالمين، إذ قال لأبيه وقومه ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون([7]).
والملاحظ من خلال هذه الآيات وغيرها أن الله سبحانه حدد أطراف الحوار في القصة وقدم أوصافا لكل طرف.
وكلا الطرفين يسلك مسلكا في العبادة لا يرتضيه الآخر. فإبراهيم عليه السلام كان راشدا، أي: أعطاه الله هداه وصلاحه إلى وحدانية الله، وهو أهل لذلك بما أتاه الله من الفضل والنبوة، وسؤاله أباه والمشركين من قومه عن معبودهم بيان للرشد الذي أوتيه. وفي قوله: ﴿ما هذه التماثيل تحقير لها وتصغير من شأنها وتجاهل لها مع علمه بتعظيمهم لها([8]).
وأما أبوه وقومه فيرون في أصنامهم آلهة: ﴿قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين([9]) أي نظل مقيمين على عبادتها ولا نتركها([10]).
2. الدعـــوى:
ذكر القرآن الكريم أطراف الحوار في قصة إبراهيم مقرونة بالدعوى، والدعوى «قول يقصد به إيجاب حق على غيره»([11]). لكننا في هذه القصة أمام مسألتين:
- دعوى إبراهيم عليه السلام: وهي التوحيد ونبذ الشرك.
- ودعوى أبيه وقومه وهي الشرك وعبادة الأصنام.
ومبادرة إبراهيم عليه السلام بالسؤال ﴿أتتخذ أصناما آلهة([12]) واستعماله "أتتخذ" الذي هو افتعال من الأخذ، إشارة إلى أن قومه يعبدون شيئا مصطنعا ليس أهلا للعبودية، وفي ذلك تعريض بسخافة عقولهم([13]).
وفي آية أخرى: ﴿أءافكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين([14])، فجعل آلهتهم إفكا لزيادة التنفير منها.
ثم إن إبراهيم عليه السلام تبرأ من قومه وما يعبدون فقال: ﴿إني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني فإنه سيهدين وجعلها كلمة باقية في عقبه لعلهم يرجعون([15]).
وهذه الكلمة هي "لا إله إلا الله" وهي دعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وخلع ما سواه من الأوثان، فجعلها دائمة في ذريته([16]).
وأما دعوى قومه وأبيه، فيدعون إلى عبادة الأصنام التي تقرب من الله زلفي! فقالوا: ﴿نعبد أصناما فنظل لها عاكفين أي بدون انقطاع، وكان يكفي أن يقولوا: نعبد أصناما، لكنهم آثروا مزيدا من التوكيد والافتخار والتباهي بهذه العبادة([17]).
ومن هذا المنطلق كانت قصة إبراهيم عليه السلام مجالا للعرض والاعتراض، وتقديم الأدلة على وحدانية الله وإثبات ذلك في كل مراحل الحوار وعبر كل الأحداث والأزمان والأماكن، فكانت السمة البارزة في هذه القصة هي التنفيذ والإثبات.
3. آليات التنفيذ والإثبات:
3-1- التنفيــــذ:
يقوم الحجاج بين طرفين: المدعي الذي يعرض دعواه، ثم يدلل عليها، والمعترض الذي يقوم اعتراضه على الدعوى غير المدللة بالمنع. أي: مطالبة المدعي بدليل على دعواه. وعلى الدعوى المدللة بالتنفيذ والدحض، أي إبطال دليل المدعي بذكر شاهد على فساد الدليل. أو بمعارضة المدعي وإقامة الدليل على نقيض دعواه([18]).
وقد سعى إبراهيم عليه السلام إلى تفنيد دعوى خصومه من المشركين بإثبات فساد معتقداتهم موظفا مجموعة من الآليات منها:
3-1-1- قبول دعوى الخصم ثم كشف ما يعتريها من تناقض:
إن التظاهر بقبول دعوى الخصم يجعل المعترض يمتص حماس المدعي، مما يجعل المجال أمامه فسيحا لدحضها وكشف ما يعتريها من تناقض. وقد عمد إبراهيم عليه السلام إلى هذه الطريقة عندما استعرض آلهة قومه زاعما قبوله بها، حتى إذا اطمأن قومه لذلك استدرك بالوقوف على ما يعتريها من نقص.
قال تعالى: ﴿فلما جنًّ عليه الليل رآى كوكبا قال هذا ربي، فلما أفل قال لا أحب الآفلين، فلما رآى القمر بازغا قال هذا ربي فلما أفل قال لئن لم يهدني ربي لأكونن من القوم الضالين، فلما رآى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر، فلما أفلت قال يا قوم إني برئ مما تشركون([19]).
فنراه عليه السلام يقول عن الكواكب لحظة بزوغها "هذا ربي" كي تطمئن نفوس المشركين بمشاركتهم ما يزعمون فكانت لحظة البزوغ مقرونة الاعتراف بالربوبية مما ينسجم مع ميول ورغبة من يعبدونها، خاصة وأنها تكون إذ ذاك في أبهى صورها.
لكنه يستغل لحظة الأفول كي يلغي زعمه الأول في إشارة ضمنية إلى قومه كي يتدبروا الأمر من جديد. فالآلهة المزعومة تبزغ وتأفل، وتظهر وتختفي، وهذه الصورة المتغيرة دليل على عدم ألوهيتها.
وهذه الطريقة مكنت إبراهيم عليه السلام من بناء الحجاج على مراحل يستدعي بعضها بعضا، وتقوم فيها الأحداث دليلا على الدعوى وليس على تقيضها، فقول إبراهيم عليه السلام عن الكواكب "هذا ربي" لا يتعارض مع دعوى التوحيد التي أقامها في البداية، بل كانت تلك اللحظة ضرورية في الحجاج لمواجهة الخصوم من داخل دعواهم، وبيان بطلانها بجعلهم يتتبعون الآلهة المزعومة لحظة بلحظة حتى إذا جاءت لحظة الأفول، وهي لحظة يشهد بها الجميع ولا يستطيع أن ينكرها أحد يجعل اعتقادهم يتهاوى فيقول: ﴿لا أحب الآفلين﴾ فلا يعلن عن النتيجة الحتمية ولكنه يدفعهم إلى الوصول إليها بأنفسهم: أي إله هذا الذي يأفل وتحجبه الشمس؟
ويستمر عليه السلام بالأسلوب نفسه متوجها إلى فئة أخرى تعبد القمر فقال معها "هذا ربي" لكنه لما أفل تبرأ منه وطلب الهداية من الله، وأعاد الكرة مع عبدة الشمس فلما أفلت تبرأ من كل مظاهر الشرك. وجعل الأفول دليلا على النقص والتغير والعجز، وجعل ألوهيتها تبعا لذلك مدعاة للشك والريب والتساؤل وكانت هذه النتيجة غاية إبراهيم عليه السلام.
فقد عمد إلى زرع الشك في نفوسهم من خلال الهدم المتوالي لمعتقداتهم، وذلك بتجلية مظاهر النقص والقصور في هذه المعبودات الوثنية، وقدم بديلا لكل ذلك حين وجههم إلى المعبود الحقيقي فقال: ﴿إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفا وما أنا من المشركين([20]).
إن نجاعة هذه الآلية تكمن في استدراج الخصم ليتابع احتجاج المعترض وأدلته وهي طريقة أقوى من المواجهة والتبكيت لأنها تتيح فرصا أكبر للحجة عندما يضمن المعترض سماع خصمه وتركيزه، والانتقال به عبر مراحل الاستدلال حتى إذا أمن اللبس دفع به  إلى الاستسلام.
يقول الشاطبي رحمه الله: «فهذه الآي وما أشبهها إشارات إلى التنزل منزلة الاستفادة والاستعانة في النظر، وإن كان مقتضى الحقيقة فيها تبكيت الخصم. إذ كان مجيئا بالبرهان في معرض الاستشارة في صحته، فكان أبلغ في المقصود من المواجهة بالتبكيت»([21]).
3-1-2- دفع الخصم إلى الإقرار بما يبطل دعواه:
وهي من أنجح الآليات في التفنيد. يدفع المعترض بها المدعي إلى الإقرار ببطلان دعواه. وقد وظف إبراهيم عليه السلام هذه الآلية بعد تحطيم الأصنام التي يعبدها قومه.
حطمها إلا كبيرهم فلما سألوه: ﴿أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم([22]) أجاب: ﴿بل فعله كبيرهم هذا فسألوهم إن كانوا ينطقون([23])، فوضعهم بذلك بين نارين إذ ورطهم بسؤال لا يمكن تجاوزه بأية حالة، وسيكون جوابهم مهما كان، دليلا عليهم وليس لهم. إنه دليل على عجز آلهتهم المزعومة.
فإن كان إلها حقيقيا فعليه أن يجيب. وإن لم يجب فهو عاجز لا يستحق العبادة، أما الآلهة المكسرة ففي أنفسها دليل على العجز. فكان قوله عليه السلام حجة دامغة، لذلك رجعوا إلى أنفسهم ﴿فقالوا إنكم أنتم الظالمون، ثم نكسوا على رؤوسهم لقد علمت ما هؤلاء ينطقون([24]).
وبعد هذا الإقرار الصريح بعجز آلهتهم يواصل إبراهيم احتجاجه فيقول: ﴿أفتعبدون من دون الله ما لا ينفعكم شيئا ولا يضركم أف لكم ولما تعبدون من دون الله أفلا تعقلون([25]). وقد عد القرطبي قول إبراهيم ﴿بل فعله كبيرهم﴾ تعريضا، قائلا: «وقيل  أراد بل فعله كبيرهم، إن كانوا ينطقون، بيد أن من لا يتكلم، ولا يعلم لا يستحق أن يعبد. وكان قوله من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب، أي: سلوهم إن نطقوا فإنهم يصدقون وإن لم يكونوا ينطقون فليس هو الفاعل»([26]).
ويوظف إبراهيم عليه السلام الآلية ذاتها مرة أخرى مع قومه بعد قولهم: ﴿نعبد أصناما فنظل لها عاكفين([27]). إذ يسألهم سؤالا توريطيا فيقول: ﴿هل يسمعونكم أو ينفعونكم أو يضرون﴾ ولما كانوا لا يستطيعون ادعاء ذلك زاغوا عن الجواب الحقيقي وراحوا يبحثون عن مبررات أخرى لم تكن مطروحة في سياق السؤال، فكان جوابهم ﴿بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون([28]). وهذا الجواب لا يقوم دليلا على صحة الدعوى، بل انضاف إلى باقي الشبهات التي استدلوا بها. والمضمر في قولهم إقرار بعجز آلهتهم عن الكلام والنفع والضرر، وهو إقرار ضمني انطلق منه إبراهيم ليقول ﴿أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين([29]).
3-1-3- الإنكــار:
من آليات التفنيد، وهو عدم التسليم للخصم بما ادعاه مع إقامة الحجة على ذلك، وقد ورد في قصة إبراهيم عليه السلام في قوله: ﴿إنما تعبدون من دون الله أوثانا وتخلقون إفكا إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقا فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون([30]).
فهو ينكر على المشركين عبادتهم للأصنام فما هي إلا أوثان وادعاؤهم أنها شريكة لله إفك، ويقيم الحجة على إنكاره بأن هذه الآلهة المزعومة لا تملك لهم رزقا، فالرزق عند الله وهو أحق بالعبادة دون غيره.
3-2- آليات الإثبات:
إن تفنيد دعوى الخصم يفسح المجال أمام المعترض لبسط دعواه والتدليل عليها، ويقدمها باعتبارها بديلا لدعوى الخصم. لذلك وجدنا إبراهيم عليه السلام وبعد كل مقطع تفنيدي لادعاءات الخصوم المشركين يبسط دعواه المتمثلة في التوحيد ونبذ الشرك، فيثبت لله عز وجل ما نفاه عن آلهتهم المزعومة، وينفي عن الله عز وجل ما أثبته لآلهتهم.
ففي سورة الشعراء مثلا وبعد دفعهم إلى الإقرار بعجز آلهتهم عن الكلام والنفع والضرر، أثبت القدرة الكاملة لله سبحانه فقال: ﴿فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين، والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين، والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين([31]).
وفي قوله عليه السلام قياس مضمر تفصيله كالآتي:
 المقدمة الكبرى: الإله الذي يستحق العبادة هو الذي يخلق ويهدي ويطعم ويسقي ويميت ويحي.
المقدمة الصغرى: ربي هو الذي خلقني ويهديني ويطعمني ويسقيني ويشفيني ويميتني ويحيني.
النتيجة: ربي هو رب العالمين المستحق للعبادة وحده.
ويمضي إبراهيم عليه السلام على النهج نفسه فيثبت القدرة المطلقة لله عز وجل مقابل العجز الكامل لآلهة المشركين، فيقول: ﴿أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير. قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة إن الله على كل شيء قدير([32]).
والاستفهام في هذه الآيات توبيخي لإنكارهم هذه الحقيقة وعدم تعقلهم لما يدل عليها دلالة واضحة.
4- وجوه المغالطة في احتجاج المشركين:
تتلخص دعوى المشركين في أحقية آلهتهم في العبادة ويحتجون لعقيدة الشرك؛ إذ جعلوا من الأصنام والأوثان والكواكب والنجوم آلهة.
لكن الحجة والوحيدة التي قدموها هي أنهم مقلدون لآبائهم وأجدادهم تقليدا أعمى لا يخضع لعقل ولا يصمد أمام أي برهان أو دليل. وهي حجة أوهى من بيت العنكبوت. ومع ذلك لم يجدوا من جواب عن أسئلة إبراهيم عليه السلام غير قولهم: ﴿وجدنا آباءنا لها عابدين([33])، وهي مغالطة يمكن إدراجها ضمن سفسطة الأكثرية التي يستند صاحبها في إثبات دعواه إلى أكثرية تعتقد أو تستحسن هذه الدعوى دون التدليل عليها.
وقد تمكن إبراهيم عليه السلام من دحض هذه الادعاءات بالدليل والبرهان وتنوعت حججه بين ما هو عقلي وحسي فأثبت بما لا يدع مجالا للشك عجز آلهتهم وقدرة الله المطلقة. وتيقنوا من ذلك، فعجزوا عن مجاراته في الحجاج ومواجهة الدليل بالدليل، فسلكوا طرقا ينتقلون فيها من مغالطة إلى أخرى حتى وصلوا إلى نقطة النهاية فقام العنف بديلا عن الحوار والمناظرة. فأبوه لا يملك حجة تؤكد دعواه وتفند أقوال ابنه، فأصبح العنف وسفسطة القوة ملاذه الوحيد فيقول ﴿أراغب أنت عن آلهتي يا إبراهيم، لئن لم تنته لأرجمنك واهجرني مليا([34]).
ومع أن أباه وقومه على ضلال فإن الله تعالى سمى أوهام القوم حجة إذ قال: ﴿وحاجه قومه قال اتحاجوني في الله وقد هدان([35]). فتبين من هذه الآية أن المحاجة كما تكون في الحق تكون في الباطل. إلا أن المحاجة في الحق كما يقول الرازي «توجب أعظم أنواع المدح والثناء» والمحاجة في الباطل: «توجب أعظم أنواع الذم والزجر»([36]).
وقد لجأ قومه إلى القوة بدل الحوار عندما تهاوت معتقداتهم أمام أدلته، قال تعالى: ﴿فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو حرقوه([37]) وقالوا في موضع آخر: ﴿ابنوا له بنيانا فألقوه في الجحيم([38]) وقالوا ﴿حرقوه وآنصروا آلهتكم إن كنتم فاعلين([39]).
وقد ألقوا به فعلا في النار لكن الله رد كيد الكائدين قال تعالى: ﴿فأرادوا كيدا فجعلناهم الأسفلين([40]) وفي موضع آخر: ﴿وأرادوا به كيدا فجعلناهم الأخسرين([41]).
فأنجاه الله تعالى من النار وجعلها بردا وسلاما قال تعالى: ﴿قلنا يا نار كوني بردا وسلاما على   إبراهيم([42]).
5- حجاجية الأسلوب:
5-1- الاستفهام:
الاستفهام هو طلب معرفة شيء لم يكن معلوما قبل السؤال، إلا أنه قد يخرج عن معناه لكي يدل على معان أخرى، فيغدو الاستفهام بذلك سؤالا بلاغيا وهو في هذه الحالة إما أن يكون بمعنى الخبر فيكون استفهام إنكار أو تقرير، أو استفهام إنشاء فيكون بمعنى التوبيخ أو التهكم أو الاستهزاء أو التحذير أو التحقير أو التعجب([43]) ويقوم السؤال البلاغي في النصوص الحجاجية بوظائف إقناعية.
وقد خرجت الاستفهامات الواردة في قصة إبراهيم عليه السلام عن معناها الحقيقي إلى أغراض بلاغية وأدت وظائف إقناعية نرصدها كالآتي: 
5-1-1- التقريـر:
وهو «حملك المخاطب على الإقرار بأمر استقر عنده»([44]) وتكمن قيمته الحجاجية في كشف الآراء التي يتبناها الخصم أمام المتلقين. والآراء «إذا أصبحت مكشوفة ومثبتة التبني يسهل على المناظر إبراز تفاهتها وكشف تناقضها»([45]).   
فإبراهيم عليه السلام يعلم أن أباه وقومه يعبدون أصناما بل إن دعواه تتلخص في هدم هذه المعتقدات الفاسدة وإحلال عقيدة التوحيد مكانها، لكنه مع ذلك وضع سؤالا تقريريا حتى يتمكن من انتزاع تقرير أبيه وقومه بوضوح.
قال تعالى: ﴿إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون؟ قالوا نعبد أصناما فنظل لها عاكفين([46]). وبعد إقرارهم بعبادة الأصنام شرع في تفنيد ادعائهم موظفا السؤال البلاغي بهدف التوريط.
5-1-2- التوريـط:
إن إقرار قوم إبراهيم بألوهية الأصنام يفترض فيها القدرة على السمع والنطق والنفع والضر... وهنا سيلجأ إلى السؤال البلاغي بهدف توريط خصومه هذه المرة فيقول ﴿هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون والغاية من السؤال هنا ليست هي طلب معرفة شيء لم يكن معلوما قبل السؤال،  وإنما أريد به الإنكار والتنبيه إلى مواطن العجز في هذه الآية. فهي لا تسمع ولا تنفع ولا تضر، فجعل هذه النقائص موضع تساؤل توريطا لعبدة الأصنام وإظهارا لهم بمظهر السخف، لذلك كان جوابهم هروبا من مواجهة الحقيقة الساطعة فقالوا: ﴿بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون﴾ فشهدوا على أنفسهم بعد أن ورطهم بأنهم يعبدون آلهة عاجزة مقلدين.
5-1- 3- اللوم والتوبيخ:
من المعاني التي يخرج إليها الاستفهام. وتكمن قيمته الحجاجية في تسفيه دعوى الخصم وتحقيرها. ومن ثمة إظهاره بمظهر الجاهل العاجز.   
وقد سمى إبراهيم عليه السلام تلك الأصنام التي يعبدها قومه تماثيلا تحقيرا لها، وفي تحقير المعبود لوم وتوبيخ لعابده. وقد جاء صفوة التفاسير: «هذا بيان للرشد الذي أوتيه إبراهيم من صغره أي حين قال لأبيه آزر وقومه المشركين ما هذه الأصنام التي أنتم مقيمون على عبادتها؟ وفي قوله «ما هذه التماثيل؟ تحقير لها وتصغير من شأنها»([47]).
ويجعل إبراهيم عليه السلام مرة أخرى الاستفهام أداة للتوبيخ وتسفيه المشركين ومعتقداتهم ومواجهتهم بفساد دعواهم ﴿إذ قال لأبيه وقومه ماذا تعبدون أإفكا آلهة دون الله تريدون فما ظنكم برب العالمين([48]).
إنها أسئلة متلاحقة لا ينتظر لها جوابا، بل هي حجج في حد ذاتها أقامها دليلا على تفاهة المشركين وما يعبدون بالمقارنة مع رب العالمين.
5-2- التوكيـد:
والتوكيد «معنى يستفاد من صيغ وأساليب لغوية معينة معروفة في العربية، وغرض تواصلي يستخدمه المتكلم لتثبيت الشيء في نفس المخاطب»([49]). وللتوكيد أغراض تداولية كثيرة حددها الاسترابادي في ثلاثة أشياء: أحدها: أن يمنع المتكلم غفلة السامع عنه، وثانيهما: أن يدفع ظنه بالمتكلم الغلط، فإذا قصد المتكلم أحد هذين الأمرين فلابد أن يكرر اللفظ الذي ظن غفلة السامع عنه، أو ظن أن السامع ظن به فيه الغلط، والثالث: أن يدفع عن نفسه ظن السامع به تجوزا»([50]).
وتؤدي هذه الأغراض التداولية أدوارا حجاجية أهمها تقوية صدق الكلام الخبري.
وقد حضر التوكيد في قصة إبراهيم عليه السلام بأدواته المختلفة.
- لقد لجأ النمرود إلى المراوغة عندما قال له إبراهيم ﴿ربي الذي يحيي ويميت﴾ فقال ﴿أنا أحيي وأميت﴾ فأمر بقتل شخص وعفا عن آخر، لذلك واجهه إبراهيم عليه السلام بحجة ساطعة لا تجدي معها المراوغة. فقال: ﴿فإن الله يأتي بالشمس من المشرق، فآت بها من المغرب، فبهت الذي كفر([51]).
وقد استعمل عليه السلام أداة التوكيد "إن" لإبراز قوة الحجة وجلائها، ولما كانت "إن" تفيد تأكيد النسبة بين اسمها وخبرها فالله وحده القادر على فعل ذلك.
- بعد أن أيقن إبراهيم عليه السلام أن قومه متشبثون بعبادة الأصنام يخبرهم أنه سيكيد أصنامهم، ويؤكد قوله بمؤكدات عدة لأنهم ما كانوا يتصورون أن أحدا يقدر على فعل ذلك بأصنامهم، لذلك خاطبهم بما يخاطب به المنكر الجاحد فقال: ﴿تالله لأكيدن أصنامكم بعد أن تولوا مدبرين([52]).
والدليل على درجة إنكارهم وجحودهم أنهم لم يأخذوا كلامه محمل الجد حتى وجدوا أصنامهم مدمرة، حينها فقط تذكر بعضهم قول إبراهيم: ﴿سمعنا فتى يذكرهم يقال له إبراهيم([53]).
ويأخذ توكيد المعاني في ذهن المتلقي صورا يثبت بها المعنى في قصة إبراهيم، أبرزها تكرار اسم الموصول "الذي" والضمير "هو" في قوله تعالى: ﴿الذي خلقني فهو يهدين، والذي يميتني ثم يحيين([54]). وكذلك كرر عليه السلام "ربي" في إشارة إلى معبوده الحقيقي، وذلك في قوله في سورة الأنعام: ﴿ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا وسع ربي كل شيء علما أفلا تتذكرون([55]).
والحمد لله رب العالمين














([1])- الحجاج في القرآن، عبد الله صولة، ط 2، منشورات كلية الآداب منوبة، تونس، 2007، ص54.
([2])- سورة يوسف، الآية 3.
([3])- سورة الأعراف، الآية 176.
([4])- سورة هود، الآية 120.
([5])- أحمد محمد جمال، القصص الرمزية في القرآن، دار الكتاب العربي، ط 4، 1985، ص5-6.
([6])- سورة الأنعام، الآية 74.
([7])- سورة الأنبياء، الآيتين 51-52.
([8])- محمد علي الصابوني، صفوة التفاسير، دار الصابوني، ط9 (د.ت)، ص2/266.
([9])- سورة الشعراء، الآية 71.
([10])- صفوة التفاسير، 2/283.
([11])- أبو البقاء الكفوي، الكليات: معجم المصطلحات والفروق اللغوية، مؤسسة الرسالة، ط1، 1992، ص446.
([12])- سورة الأنعام، الآية 74.
([13])- محمد سيد طنطاوي، القصة في القرآن الكريم، نهضة مصر، 2001، ج1/119.
([14])- سورة الصافات، الآيتين 86-87.
([15])- سورة الزخرف، الآيات 26-27-28.
([16])- ابن كثير، تفسير القرآن العظيم، دار الرشاد الحديثة، البيضاء، 1978، 7/192.
([17])- القصة في القرآن الكريم، 1/136.
([18])- شوقي المصطفى، المجاز والحجاج في درس الفلسفة بين الكلمة والصورة، السلسلة البيداغوجية، ع26، درا الثقافة البيضاء، 2005، ص98.
([19])- سورة الأنعام، الآيات 76-77-78.
([20])- سورة الأنعام، الآية 79.
([21])- الموافقات في أصول الشريعة، بيروت، ط2، 1975، 4/245.
([22])- سورة الأنبياء، الآية 62.
([23])- سورة الأنبياء، الآية 63.
([24])- سورة الأنبياء، الآية 65.
([25])- سورة الأنبياء، الآيتين 66-67.
([26])- القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، راجعه وضبطه: محمد إبراهيم الحنفاوي، درا الحديث، القاهرة، ط2، 1996، ج11/318.
([27])- سورة الشعراء، الآية 71.
([28])- سورة الشعراء، الآية 74.
([29])- سورة الشعراء، الآية 77.
([30])- سورة العنكبوث، الآيتين 16-17.
([31])- سورة الشعراء، الآيات 77-78-79-80-81-82.
([32])- سورة العنكبوث، الآيتين 19-20.
([33])- سورة الأنبياء، الآية 53.
([34])- سورة مريم، الآية 46.
([35])- سورة الأنعام، الآية 80.
([36])- التفسير الكبير، درا الفكر، ط 2، بيروت 1978، ج 4/81.
([37])- سورة العنكبوث، الآية 24.
([38])- سورة الصافات، الآية 97.
([39])- سورة الأنبياء، الآية 68.
([40])- سورة الصافات، الآية 98.
([41])- سورة الأنبياء، الآية 70.
([42])- سورة الأنبياء، الآية 69.
([43])- الزركشي بدر الدين، البرهان في علوم القرآن، تحقيق: أبو الفضل إبراهيم، درا الفكر، ط3، 1980، ج2/328.
([44])- المرجع نفسه، 2/331.
([45])- عادل عبد اللطيف، خطاب المناظرة في التراث العربي الإسلامي، أطروحة مرقونة بكلية الآداب، مراكش.
([46])- سورة الشعراء، الآيتين 70-71.
([47])- علي الصابوني، 2/266.
([48])- سورة الصافات، الآيتين 86-87.
([49])- صحراوي مسعود، التداولية عند العلماء العرب، دراسة تداولية لظاهرة الأفعال الكلامية في التراث اللساني، درا الطليعة، بيروت، ط 1، 2005، ص206.
([50])- الاستربادي رضى الدين، شرح الكافية في النحو لابن الحاجب، تحقيق: رحاب عكاوي، بيروت، درا الفكر، 2000، ص316.
([51])- سورة البقرة، الآية 258.
([52])- سورة الأنبياء، الآية 57.
([53])- سورة الأنبياء، الآية 60.
([54])- سورة الشعراء، الآيات 78-80.
([55])- سورة الأنعام، الآية 80.


Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire