تمهيـد:
درج الدارسون
على ربط الحجاج بالمناظرة انطلاقا من كونه
قائما على مقابلة الحجة بالحجة في سياق المخاصمة والمنازعة، وقد ترسخ هذا الفهم في المعنى اللغوي للحجاج إذ يقول ابن منظور:"حاججته أحاجه حجاجا ومحاجة حتى حججته أي:
غلبته بالحجج"[1].
وفي تاج العروس لمرتضى الزبيدي: "الحجة: الدليل
والبرهان. وقيل ما دُفع به الخصم. وقال الأزهري: الحجة الوجه الذي يكون به الظفر
عند الخصومة"[2]. غير أن هذا الفهم لا يلغي الحدود الفاصلة بين أنواع الحجاج التي
تتباين بتباين أقسام المنطق، أي: البرهان والجدل والخطابة والسفسطة والشعر. ومن
ثمة فالحجاج يختلف باختلاف المنطلقات والمقاصد والأجناس الحجاجية.
فالحجة البرهانية تستند إلى مقدمات يقينية وتبعا لذلك
فنتائجها قطعية، والحجة الجدلية تستند إلى مقدمات مشهورة ولذلك فنتائجها احتمالية، وتقوم الخطابة على مقدمات مظنونة ونتائج اعتقادية وإقناعية،
والسفسطة على مقدمات مشبوهة ونتائج مغلطة، بينما الشعر فيرتكز على مقدمات مخيلة
ونتائجه تخييلية.
إن الذي يجمع بين أقسام المنطق من منظور حجاجي؛ هو أن
هذه الأقسام الخمسة تسعى إلى إنشاء الاعتقادات أو تثبيتها أو تغييرها لدى المخاطب،
لكن لكل قسم منها طريقته الخاصة ومنهجه المتفرّد، كما أن هذا التنوع لا يلغي
التراتبية بين أقسام المنطق؛ فالبرهان مثلا أقوى حجاجيا من الجدل. والجدل أعمق من
الخطابة؛ لأن الفرصة تتاح فيه للمجادل للاعتراض على خصمه. والشعر أقل حجية من
الخطابة؛ لأن الإقناع بالتخييل يوحي بأن الناس خوطبوا بما غلطوا به.
إلا أن المقام التخاطبي قد يجعل البرهان في مرتبة أقل من
الشعر والخطابة، لذلك ألحّ الدّارسون على ضرورة الالتزام بالمقام أثناء عملية
التخاطب، وأن يخاطب الناس بما يفهمون فلا يخاطب العوامّ بخطاب الحكماء ولا يخاطب
"المشاغبون"[3] بكلام العوام؛ بل لكل مقام مقال.
والحديث عن الحجاج في الشعر له ما يسوّغه في الحقل
النقدي والفلسفي عند العرب. فقد نُظر إليه من زاوية
قدرته على التأثير في المتلقي وجعله منصاعا لمقتضى القول.
ولخّص حازم القرطاجني (684هـ) هذا المعطى في قوله المشهور:"إن صناعة الشعر تستعمل يسيرا من
الاقوال الخطابية، كما أن الخطابة تستعمل يسيرا من الأقوال الشعرية، لتعتضد
المحاكاة في هذه بالإقناع والإقناع في تلك بالمحاكاة. وإنما يعاب على الشاعر إذا
كان أكثر أقاويله أو ما قارب مساواة الباقي بزيادة قليلة أو نقص خطابيةً، والخطيب
إذا كانت أقاويله أو ما قارب المساواة بزيادة قليلة أو نقص شعريةً."[4] وهي دعوة منه
إلى ضبط قوانين المراوحة بين المعاني الشعرية والمعاني الخطابية، واعتراف صريح
بالبعد الحجاجي للشعر وإن كان المقصد تخييليا، ذلك أن قيام الشعر على مقدمات
تخييلية لا يلغي المداخل التأثيرية التي تستهدف المخاطب وتسعى إلى جعله
منصاعا للقول إلى جهة الانقباض أو الانبساط.
وقد كانت هذه
المعطيات؛ التي حاولت أن تجد مكانا مريحا للخطابة داخل الشعر وموقعا متميزا للشعر
داخل الخطابة؛ دافعا للبحث في حجاجية قصيدة "بانت سعاد" لكعب بن زهير،
خاصة وأنها تغصّ بالأساليب الحجاجية القائمة على العرض والاعتراض من خلال المدح
والاعتذار ومحاولة الشاعر تبرئة نفسه من "التهم" التي ألصقت به في فترة
من فترات حياته الجاهلية، وسعيه إلى تغيير الخطاب المعادي للدّين بخطاب آخر ينظر
إلى الإسلام من زاوية مشرقة يأمل أن يشمله مفعولها وأن يحظى بعفوِ الرسول r، "والعفو عند رسول
الله مأمول".
وجدير بالإشارة في هذا المقام، أن الخيال والصور
البيانية لا يحققان التصديق ما لم تسند العبارة بما يرجح الاحتمالات، والفرق هنا
واضح بين منطق البرهان ومنطق الرجحان. والوصول إلى الإقناع لا يكتفي بما هو عاطفي
وإنما يعضّد بما هو عقلي، ولعلّ هذه الخصيصة هي أهمّ ما يميز الاستدلال البلاغي،
فهو يخاطب العقل والعاطفة معا حتى إن شكري المبخوت يرى أن "البلاغة العربية
في تحديدها لموضوعها ولمنهج تناولها للمسائل تقوم على تصور استدلالي"[5].
لكن الاستدلال البلاغي لا يعني انبناء الشعر على المرتكزات البرهانية
القائمة على اليقينيات والقياسات البرهانية، فالأدلة الشعرية تقف عادة عند جعل
القول دليلا على قول آخر[6] وذلك بالانتقال
من المعنى إلى معنى المعنى بتعبير الجرجاني مثل الانتقال من كثرة الرماد إلى كثرة القرى وحسن الضيافة وجعل كل علامة مادية دليلا على صفة معينة[7].
وسوف يكون تعاملنا مع القصيدة انطلاقا من هذه المعطيات،
بحيث تكون علاقة الدارس بالمدروس محكومة بما يتيحه النص دون إسقاط للمصطلحات
الحجاجية والبحث لها عن الشواهد من داخل القصيدة، محاولين الاستفادة من بعض
الدراسات الفردية التي كانت أدواتها
مسعفة في استنطاق "بانت سعاد" وجعلتها تبوح بكثير من الأسرار الحجاجية
المتماهية مع التخييل واللغة الشعرية والذائقة الأدبية لكعب بن زهير.
1- المقام الخطابي في
"بانت سعاد":
يرتبط المقام الخطابي في عرف البلاغيين
بمطابقة الكلام لمقتضى الحال. أي: أن يكون القول منسجما مع الاعتبارات السياقية الداعية إلى صياغته. وكلما كان
القول مناسبا لما يقتضيه الحال كان بليغا، وبقدر الدقة والمناسبة تتفاوت الأساليب
في البلاغة حتى تصل إلى مرتبة الإعجاز علوًّا أو أصوات الحيوان تدحرجاً، ولا يكون
التفاوت في التعبير عن المعاني المشتركة وإنما في طرائق التعبير، والقدرة على
إتيان المعاني من الجهات التي هي أصحّ لتأديتها[8].
وهذا يعني أن الاستدلال البلاغي لا تكمن قيمته في
الدلالة على "أنفس المعاني التي يقصد المتكلم إليها بخبره"[9]، وإنما "في طريق إثباته لها وتقريره إياها"[10]. وهذه الزيادة الحاصلة في قوة تقريرالمعنى هي أسّ الحجاج في
الاستدلال البلاغي[11].
1-1- سياق القصيدة:
كان كعب بن زهير بن أبي سلمى من شعراء الجاهلية، في طبقة عالية من طبقات الشعراء[12]، وقد هجا رسول الله r عند ظهور
الاسلام، فأهدر دمه.
واحتال لنفسه حتى جاء الرسول r مستأمنا، فأسلم
ومدح معتذرا عمّا بدر منه، ونالت لاميته من الشهرة ما لم تنله غيرها من القصائد
وعارضها الشعراء[13] فَذَاعَ صيتها
على كل لسان، وعلا شأنها "عند الأولين والآخرين"[14]. وأصبحت جزءا من
السيرة، ولاقت من العناية ما هي به جديرة.
لقد كان إسلام كعب بن زهير هو الباعث على إنشاء القصيدة[15]. ولا يمكن استحضار "بانت سعاد" دون استحضار قصيدة أخرى هجا
فيها أخاه بجيرا عندما أسلم. فقد ورد في كتاب الطبقات[16] وكذا في كتاب
دلائل الإعجاز[17] أن كعبا بعث
أخاه للنظر فيما يقول الرسول r عن الدين الجديد
فسمع منه وأسلم. فغضب كعب غضبا شديدا جعله يهجو أخاه
بقوله:
لَا أَبْلِغَ لا أَبْلِغَا عَنِّي بُجَيْرًا رِسَالَةً فَهَلْ لَكَ
فِيمَا قُلْتَ وَيْحَكَ هَلْ لَكَـا
سَقَاكَ بِهَا الْمَأْمُـونُ كَأْسًا
رَوِيَّـة فَأَنْهَـلَكَ الْمَأْمُـونُ مِنْهَا
وَعَلَّكَـا
فَفَارَقْت أَسْبَـابَ الْهُدَى
وَاتَّبَعْتـه عَلَى أَيِّ شَيْءٍ وَيْب غَيْرِكَ
دَلَّكَـا
عَلَى مَذْهَبٍ لَمْ تُلْفِ أُمًّـا وَلَا
أَبـاً عَلَيْهِ وَلَمْ تَعْرِفْ عَلَيْهِ أَخًـا لَكَـا
فاعترض عليه بُجير بقصيدة أخرى:
مَنْ مُبْلِغٌ كَعْبـًا فَهَلْ لَكَ
فِي الَّتِي تَلُومُ عَلَيْهَـا بَاطِلاً
وَهيَ أَخْرَمُ
إِلَى اللهِ لَا الْعُزَّى وَلَا
اللَّاتَ وَحْدَهُ فَتَنْجُو إِذَا كَانَ
النِّجَـاءُ وَتُسْلِـمُ
لَدَي يَوْمَ لَا يَنْجُـو وَلَيْسَ
بِمُفْـلِتٍ مِنَ النَّارِ إِلَّا طَاهِرُ
الْقَلْبِ مُسْلِـمُ
فَدِينُ زُهَيْـرٍ وَهوَ لَا شَيْءَ
دِينُـهُ وَدِيـنُ أَبِي سَلْمَى عَلَيَّ مُحَـرَّمُ
وقد أطلع بجير رسول الله r على قصيدة كعب،
فأهدر دمه[18]. ولما ضاقت به الأرض بما رحبت وعرف بأنه مقتول لا محالة، بحث لنفسه عن مخرج فوجد في التوبة ملاذا وقدم تائبا وقبل منه الرسول r توبته فأنشده "بانت سعاد فقلبي اليوم متبول"[19].
1-2- مقام النبوة: "العفو عند
رسول الله مأمول"
هذا المقام وإن لم يأخذ من القصيدة حيزا معادلا
لما أخذه الغزل ووصف الناقة، إلا أن قيمته غطّت على باقي المداخل الفنية والحجاجية
التي استند إليها الشاعر لإبراز توبته من خلال قدرته على الإبداع، فقد دخل إلى الحضرة النبوية بنبذ عقيدة الشرك. والتخلص من الوساطات
التي لم تجلب له غير التهديد
والوعيد، فاختار أن يقبل على مصيره مسلّحا بعقيدة جديدة هي عقيدة كل مسلم مؤمن
بالله متوكل عليه؛ تلك العقيدة التي بدت ملامحها حين قوله:
فَقُلتُ خَلُّـواْ سَبِيـلِي لَا أَبَا
لَكُـمْ فَكُلُّ
مَا قَدَّرَ الرَّحْمَـنُ مَفْعُـولُ
كُلُ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَـالَتْ
سَلاَمَتُهُ يَوْماً عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُـولُ
أُنْبِئتُ أَنَّ رَسُـولَ
اللَّهِ أَوْعَدَنـِي وَالْعَفُوُ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ
مَامُـولُ
فهذه الأبيات الثلاثة توضح بشكل جلي مقام النبوة في نفس الشاعر. وقد
جرّب كل الطرق إلى رسول الله r بعد طعنه في
الإسلام أثناء هجاء أخيه بجير وحقيقة إهدار دمه فلم يجد ملجأ إلى النجاة إلا عبر
رسوله الكريم، فاعتنى بمبادئ العقيدة الإسلامية واضطر لمواجهة مصيره بنفسه، فكان
يغالب نوازعه وتوجّسه من مصيره المجهول بالحجاج بالمسلمات ذات الصلة بمصير الإنسان
عموما، وبقدرة الرحمن وإرادته في الكون. ثم ما لبث أن ولج موضوع العفو وجاء فيه
بقول شعري مسنود بالحقائق والقيم المعروفة عن الرسول r. فهو يعي جيدا أنه على
خلق عظيم يستحيل معه أن يقابل تائبا إلى الله بغير الصفح: "والعفو عند رسول
الله مأمول"، "وكل ما تقدم توطئة لهذا البيت، فغرضه التنصل والاستعطاف
والاسترضاء، فهو r أسرع الناس رضى
وأبعدهم غضبا وتواترت الأخبار بذلك"[20]. وقد عرف عن الرسول r أنه ما انتقم
لنفسه " إلا أن تنتهك حرمات الله فينتقم لذلك"[21].
ثم إنه جعل من مقام النبوة مدخلا إلى حقيقة
الإسلام عامة دين الهداية والقرآن فقال:
مَهلاً هَداكَ الَّذي
أَعطاكَ نَافِلَةَ الْـ قُرآنِ فِيهَا مَوَاعِيظٌ وَتَفْصيـلُ
لَا تَأَخُذَنِّي
بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَـمْ أُذْنِبْ وَإنْ كَثُـرَتْ فِيَّ
الْأَقَاوِيـلُ
لَقَـدْ
أَقُومُ مَقَامـاً لَوْ يَقُومُ بِـهِ
أَرَى وَأَسْمَعُ مَـا لَمْ يَسْمَعُ
الْفِيـلُ
لَظَلَّ يُرْعَـدُ إِلَّا أَنْ
يَكُـونَ لَـهُ مِنَ الرَّسُـولِ بِإِذنِ اللَهِ تَنْوِيـلُ
حَتَّى وَضَعْتُ
يَمِيني لَا أُنَازِعُـهُ فِي كَفِّ ذي نَقِمَاتٍ قِيلُهُ
الْقِيـلُ
لَذاكَ أَهْيَبُ
عِنْـدِي إِذْ أُكَلِّمُـهُ وَقِيلَ إِنَّكَ
مَنْسُوبٌ وَمَسْـؤُولُ
مِنْ خَادِر مِنْ
لُيُوثِ الْأُسْدِ مَسْكَنُـهُ مِنْ بَطْنِ عَثَّرَ غِيلٌ دُونَهُ غِيـلُ
يَغْدُو فَيُلْحِمُ
ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُما لَحْمٌ مِنَ الْقَومِ مَعْفُورٌ
خَرَادِيـلُ
إذا يُسَاوِرُ
قِـرنـاً لَا يَحِـلُّ لَـهُ أَنْ يَتْرُكَ الْقُرْنَ إِلَّا وَهْوَ
مَجْدُولُ
مِنْهُ تَظَلُّ
سِبَاعُ الْجَوِّ ضَامِــرَةً وَلَا تَمَشَّى بِوَادِيـهِ
الْأَرَاجِيــلُ
وَلَا يَزَالُ
بِوَادِيِـهِ أخُـو ثِقَــةٍ مُطَرَّحُ الْبَزِّ وَالدَرْسَانِ
مَاكُـولُ
إِنَّ الرَّسُولَ
لَسَيْفٌ يُسْتَضَـاءُ بِهِ مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ
مَسْلُــولُ
يتضح من خلال هذا المقطع أن مقام النبوة في القصيدة مفعم
بالقداسة والإجلال، وقد سعى الشاعر أن يقارب هذا المدخل الحجاجي بجملة من المؤشرات
الدالة على استيعابه للسياق الجديد الذي يتكلم من داخله بعيدا عن التصورات السابقة
التي كانت سببا في انزياحه عن جادة الصواب، فلم يعد يضع معتقده – كما فعل مع أخيه
بجيرا- في ميزان المقارنة مع الإسلام، وإنما آمن بأن الإسلام هو الهدى وأنه من عند
الله، ويُستشفّ ذلك من قوله: " مَهلاً
هَداكَ الَّذي أَعطاكَ نافِلَةَ الْقُرآنِ"، ومن ثمة فإن مقام النبوة مقام مهابة
وتعظيم وإجلال. ومن جلاله أن الفيل لو قام فيه مع ضخامته لظل يرتعد لِعظم هذا
المقام. وذكره الفيل إنما كان للصورة التي يحتلها في مخيال الناس الجمعي من حيث
الضخامة والقوة. فكيف لإنسان غاية في الضعف والوهن ألا يرتعد ويخشع والرسول r في مقام قوة ومنعة، "وقوله القيل"، أي إن قوله هو المعتد به
شرعا وهو قول نافذ لا اعتراض عليه وبإمكانه أن ينفذ وعيده في حق الشاعر.
لقد اجتمعت في هذا المقام النبوي شروط القدسية والجلال
والقوة مع عدم إمكانية تنكر الشاعر أو تنصّله من المسؤولية فيما بدر منه من أقوال
وأفعال سبقت الاعتذار، فكان إحساسه بالهيبة وشعوره بالرهبة إذ يكلمه الرسول r في ذلك. ولا غرو فالرسول r أشد هيبة في
النفوس من الليوث في خدورها:
لَذاكَ
أَهْيَبُ عِنْـدِي إِذْ أُكَلِّمُــهُ وَقِيـلَ إِنَّكَ مَنْسُـوبٌ
وَمَسْـؤُولُ
مِنْ
خَادِر مِنْ لُيُوثِ الْأُسْدِ مَسْكَنُهُ مِنْ بَطْـنِ عَثَّرَ
غِيلٌ دُونَهُ غِيـلُ
ومعنى هذا القول: أنه في مقام النبوة أصابته الرهبة عندما وُوجِه
بأقواله السابقة " وَقيلَ إِنَّكَ
مَنْسـوبٌ وَمَسـؤولُ" أي مسؤول عما نسب إليك، فكانت رهبةً أهيب في
نفسه من مجابهة ليوث الأسد الأشد شراسة وفتكا ووحشية لملازمتها خدورها وعدم
استئناسها بالناس. وأكثر من هذا أنها ليوث لها ضرغامين صغيرين في حاجة إلى الإطعام
فتنضاف شراستها إلى حاجتها الطبيعية لإطعام صغارها. "يَغْدُو فَيَلْحَمُ ضِرْغَامَيْنِ عَيْشُهُمَـا"، فتكون آنذاك
أشد شراسة وتَوْقاً إلى
الافتراس. والأُسد التي تكون هذه حالتها:
إذا يُسَاوِرُ قِرنـاً لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَتْرُكَ
الْقُرْنَ إِلَّا وَهْوَ مَجْدُولُ
إذا وثبت على فريستها لا تتركها إلا وهي مقطعة مجدولة.
كانت هذه هي صورة المقام النبوي في نفس الشاعر.
مقام كله قدسية وقوة ومنعة. وقد صوّر ما لحقه من رهبة في هذا الموقف وكانت أشد
عليه من مواجهة الأسد الخادرة في أجمتها والمتطلعة إلى إطعام صغارها.
ثم إنه لخّص أسباب هذه الرهبة من
المقام النبوي في بيت القصيد من القول:
إِنَّ الرَّسُولَ
لَسَيْفٌ يُستَضاءُ بِهِ مُهَنَّدٌ مِن سُيوفِ اللَّهِ
مَسْلُـولُ
فِي فِتْيَةٍ مِن
قُرَيْشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ لَمَّا
أَسْلَمُواْ زُولُـواْ
فالرسول r من سيوف الله
التي يقام بها الحق فوق الأرض، وقومه المهاجرون رضي الله عنهم لا ينازعونه القول
بل يأتمرون بأمره، فقد هاجروا عندما أسلموا استجابة لأمره ولم يبق في مكة إلا
المستضعفون.
1-3- مقام
الاعتذار: "لا تأخذني
بأقوال الوشاة"
كان الشاعر واعيا بلوازم المقام الذي يستوجبه الاعتذار
من خلال البوح بمكامن الضعف في علاقته بالمحبوبة والخلان على السواء واعترافه
بالذنب بعد أن أسلم وتاب مما بدر منه؛ فمهّد للاعتذار بمدخل فني يصف المحبوبة
والناقة قبل أن يعلن توبته. وهذا المدخل الفني لا يمكن فصله عن السياق العام الذي
قيّد القصيدة عموما، فالشاعر أضحى وحيدا بعد إهدار دمه وفرار الأخلاء عنه، فأضيف
ذلك إلى همّه العاطفي.
والغزل عموما من الحيل الشعرية التي يلجأ إليها الشعراء
لاستمالة المتلقين لأن هذا المدخل هو السبيل إلى ما بعده. وقد استطاع كعب بن زهير
أن يضمن لقصيدته قبولا من بدايتها إلى نهايتها، وأن ينال الصفح والجائزة النبويين
في الآن نفسه عندما قابل بين المقام النبوي الموسوم بالقوة والقدسية والمنعة
والمقام الشاعري المحفوف بالمخاطر والتوجّس والضعف. وهو بذلك في حاجة إلى من يرحم
ضعفه.
وبما أنه لا يستطيع أن ينكر ما نسب إليه، فقد جعل
من موضوع "سعاد" و"الوشاة" و"الناقة" مركبا سهلا
لتلافي الخوض في صلب الموضوع، فأرجع كل شيء إلى الوشاة.
وهي حجة لا تقوم دليلا عند النبي r، ولا تليق بمقام النبوة،
وربما كان هذا العذر مما درج عليه الشعراء في الجاهلية من إلصاق التهم بالوشاة
وغيرهم.
وقد يكون هذا مما لا يزال عالقا بذهن الشاعر من نوازع الجاهلية في
الإبداع والاعتذار. مما يندرج ضمن سفسطة الأكثرية لأنها شملت كل الوشاة بدليل
"ال" التعريفية الدالة على الاستغراق، مع ما رافق ذلك من إبهام.
ولا يمكن للرسول r أن يبني حكما
شرعيا من خلال أقوال الوشاة على كل حال. لكن يباح للشعراء ما لا يتاح لغيرهم:
لَا
تَأَخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ أُذْنِبْ وَإنْ كَثُرَتْ
فِيَّ الْأَقَاوِيلُ
ويهمنا من القول بعده الحجاجي. فقد بدأ البيت بنهي "لا
تأخذني" تبعه نفي "ولم أذنب"، ثم افتراض "ولو كثرت" وكل
ذلك لنفي ما سماه "الأقاويل". وهذه العبارة تحمل طاقة حجاجية تفرغ
"الأقاويل" من محتوياتها وتجعل منها إشاعات مغرضة غير مسنودة بدليل، فهي
أقاويل الوشاة فحسب. ومن ثمة فإن الكثرة لا تعني الصحة، وإنما هي لغو يستهدف به
الوشاة خصومهم كلما وجدوا الفرصة سانحة لذلك.
وباقتران لفظة الوشاة مع كثرة الاقاويل، تنشأ حجة ضاغطة
استثمرها الشاعر لنفي التهمة عن نفسه وجعل منها موجّهات حجاجية ترجّح توجّها
حجاجيا ممهّدا للاعتذار ونيل الصفح.
فَقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
مُعْتَذِراً وَالْعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مَقْبُولُ
ويرتبط هذا البيت بالذي قبله، أي: طلب
العفو. وجاء الاعتذار بعد الاعتراف وكلاهما مسنود بعلم مسبق بأخلاق الرسول r، إذ من شيمه أن العفو
عنده مأمول والعذر عنده مقبول؛ فقرن الشاعر بين طلب العفو والاستدلال عليه بالقبول
الذي عرف به الرسول r وهي إشارة إلى
أخلاقه العظيمة التي مدحه الله بها قائلا:
] NZöF;`Aæo ê]iÓm]j ¼TöaiöaZ À~EöøO Ón [[22]. ولا يمكن لمن
كانت هذه أخلاقه أن يطرد معتذرا معترفا بذنبه أو يصده أو ينتقم منه.
2- منطلقات الحجاج في "بانت
سعاد":
تؤخذ المنطلقات
الحجاجية على أنها مسلمات يقبل بها الجمهور، وتكون من الأسس التي تدعم الإقناع لدى
المخاطبين. ومن أهم هذه المنطلقات في القصيدة:
2-1- الوقائع والحقائق:
تعد الوقائع من الأمور المشتركة بين الناس، والتسليم بها
يكون انسجاما مع ما يعتقده الافراد مجتمعين لأن الواقع يفرض هذا الإجماع[23]. ومن ثمة كانت
الوقائع " مقدمات حجاجية غير قابلة للدحض"[24]. أما الحقائق فلها نفس الخصائص من حيث القبول والتوافق الذي تحظى به
من لدن الناس[25]. وهي الأسس الداعمة للحجاج لما تتيحه من بداية قوية للعملية الحجاجية.
وتقوم الوقائع والحقائق في "بانت سعاد" على
أسس دينية ذات صلة بالرسول r وصحابته الكرام
ودين الإسلام عموما. وقد لخّص الشاعر هذه الأسس في بيت واحد يعلن فيه اعترافه
بالدين الجديد وإسلامه وإيمانه بمصدره الإلهي وبنبوة محمد r:
إِنَّ الرَّسُولَ
لَسَيْفٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُـولُ
قال صاحب نيل الأمنية على
القصيدة الكعبية: "وهذا البيت هو بيت القصيد في هذه القصيدة، فكل ما قبلها
إنما هو توطئة له، فهو استئناف كلام رجع به من الاستطراد إلى المدح. ولذلك نال به
رضى رسول الله r وعفوه عنه، فرمى
صلى الله عليه وسلم عليه بردته الشريفة، وسمّيت هذه القصيدة باسم البردة"[26].
وجاء في بعض الروايات أن رسول الله r أشار في معرض القصيدة إلى أصحابه أن اسمعوا خاصة عندما قال الشاعر[27]:
إِنَّ الرَّسُولَ
لَسَيْفٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ مُهَنَّدٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ مَسْلُـولُ
وهذه الإشارة من الرسول r –إن صحت- فهي
دعم وإقرار لهذا القول الشعري باعتباره حقيقة ثابتة وليس من المزايدات أو
المبالغات التي يلجأ إليها الشعراء للاستمراء والتزلف. فاجتمع للقول صحّته وموافقة
الرسول r والإتابة عليه وإجماع الصحابة على قبوله.
وكان التسليم بالحقيقة النبوية في قوله: "إِنَّ
الرَّسُولَ لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ" قبل الاعتذار داعما للبناء الحجاجي في
القصيدة لأن كلام الشاعر أكد شيئا موجودا سلفا وارتقى به إلى مدارج الرفعة الشعرية
مازجا بين الإمتاع والإقناع في صورة لقيت متوبة النبي r واستحسانه وإشارته إلى أصحابه أن اسمعوا وعوا.
2-2- القيـم:
تكون في محل
اتفاق بين الجميع مما يسمح بإشراك
الحالات الخاصة التي قد لا يحصل إقناعها بالمنطلقات الأخرى[28]. وتكون القيم نافعة في حمل النفوس على التأثر لمقتضى القول نظرا لما
تحوزه من قدرة على خدمة الجوانب العاطفية والعقلية من العملية الحجاجية، لأنها
تهمّ بالأساس إبراز المشترك بين الناس والدفع به إلى واجهة الأشياء المرغوبة أو
دعم حصول أفعال مطلوبة بالاستناد إلى حجيتها في متعارف الأوساط.
وقد طرق الشاعر مجموعة من القيم الإسلامية النبيلة وجعل
من قيمة "العفو" بؤرة تتركز حولها منظومة القيم الداعمة لغرضه من قصيدته
فقال:
أُنْبِئتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
أَوْعَدَنِي وَالْعَفُوُ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ مَامُولُ
وكان همّه بعد توبته أن ينال عفوا علنيا من الرسول r بعدما عوقب بإهدار دمه، فكان له ما أراد. واستطاع بهذه القيمة أن يلغي
عبارات الوعيد. وقد كانت قيمة العفو من شيم الرسول r، لذلك خاطب الشاعر
سماحته، فقبل منه الاعتذار وكافأه على الإقبال تائبا وقول الحق مخاطبا. واستطاع أن
يجعل من العفو موضوعا محوريا دفع بحكاية هجاء بجير وما ترتب عنها إلى الهامش بعدما
وقع القول موقع الرضى والقبول من الرسول r. فكانت حجة العفو التي استدل بها داحضة لما سواها من الأقاويل.
وأرى أن الرسول r قبل الاعتذار
وعفا عن المسيء لأن قيمة العفو من شيمه، ثم إن العفو تشجيع للناس على الإسلام
وحماية لهم من الموت على الكفر. فالإسلام يجبّ ما قبله.
هكذا اجتمع لقيمة العفو التي دافع عنها الشاعر من
الدواعي والأسباب ما جعلها بؤرة تسبح في فلكها باقي القيم الإسلامية المطروقة في
القصيدة، خاصة وأن الشاعر كان في حاجة إلى "العفو" قبل أي شيء آخر حين
ضاقت به الأرض بما رحبت وتخلى عنه الأخلاء وطوّقه الوشاة:
تَسْعَى الْوُشَاةُ جَنَابَيْهَا
وَقَوْلُهُمُ إِنَّكَ يَا ابْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ
وَقَالَ
كُلُّ خَلِيـلٍ كُنْتُ آمُلُـهُ لَا ألْهِيَنَّكَ إِنِّي عَنْكَ
مَشْغُـولُ
فتأكد بما لا يدع مجالا للشك أنه مقتول على الكفر حتماً. وذلك ما عبّر
عنه بالقول "لمقتول" تأكيدا للخبر بـ "إن" الشديدة المكسورة
الهمزة، ولام الابتداء، واستبعادا لإنكار أي منكر لهذا الخبر، ولهذه الأسباب كانت
قيمة العفو في قمة الهرم الحجاجي. ولا غرو فإن " ترتيب القيم أهم من القيمة
ذاتها"[29].
3- الإقناع بالعواطف:
لم يكن
مدار اختلاف الباحثين في الحجاج منذ القديم على القدرة الإقناعية للكلام، بل توزّعت
نظرهم كيفية هذا التأثير وشغلت تفكيرهم مصادر تلك القدرة ومآتيها، فإذا كان
الاتجاه الأفلاطوني السائد قبل أرسطو قد عزا هذه القوة إلى اللغة (اللغوس)[30] من خلال ما
يبنيه المتكلم من مقدمات تفضي إلى نتائج ملزمة لا جدال فيها؛ لاستجابتها لشروط
الاستدلال وقوانين المنطق[31] في إعلاء صريح
لملكة العقل عند الإنسان، وتحامل على جانب العواطف فيه، فالحقيقة عند هذا التيار
هي تلك التي يسندها العقل ويرفدها المنطق.
وإذا كان تيار السفسطائيين قد نظر إلى قضية
التأثير والإقناع من خلال ربطها بالذات المتكلمة واعتبرها المعيار في الحكم، إذ أن
ما تراه حقيقة هو الحقيقة، فإن أرسطو استطاع أن يجد للعواطف مكانة متميزة في مملكة
القول جامعا التيارات التي سبقته في ربقة واحدة، رافعا بذلك الحرج عن الخطابة التي
أسهمت التيارات السابقة في رسم معالمها، قناعة منه بأن الخطاب الحجاجي خطاب تداولي
تؤدي فيه الذات المتلفظة[32] دورا أساسا في توجيه الخطاب بما يخدم مقاصدها وأهدافها، وبما يجعل
الخطاب قمينا بالنفاذ إلى حِمَى المخاطب، هذا الذي لا ينظر إلى الخطاب بوصفه
علامات لسانية فقط أو مجرد قضايا منطقية، بل بوصفه إنتاجا لذات يرسم لها صورة
معينة من خلال ما تتلفظ به، وكلما انبنت هذه الصورة على الصدق "Crédibilité" كلما كان الخطاب
أنجع وكان تأثيره في المتلقي أكبر.
لقد تلقفت الدراسات الحديثة المهتمة بتحليل الخطاب[33] هذه الحقيقة،
وأعادت الاعتبار للمتكلم ونبهت إلى مركزيته في إنتاج الخطاب وإنجازه، وتم الاقتناع
بأهمية الهوية التلفظية التي تتشكل من خلال الملفوظ. هذه الهوية تتجلى خطابيا من
خلال مجموعة من المؤشرات اللسانية والتداولية التي تسهم بشكل كبير في إيقاع
التصديق، وتحقيق الاقتناع.
لا يخفى
أن الخطاب الذي ينجزه المتكلم يتوجه نحو قصد ويؤم غاية محددة، من خلال التأسيس لفعل
كلامي أكبر، أو نقول بلغة الحجاج نحو "أطروحة"، وهي افتراض يؤدي بنا إلى
القول إن المتكلم حين ينحت لنفسه صورة ما يكون ذلك بغاية خدمة هذا المقصد ودعم هذه
الأطروحة. ولذلك فإن الإمساك بالنتيجة الكبرى[34] من شأنه أن
يدلنا ويوجهنا توجيها دقيقا نحو الإلمام بأخلاق الخطيب وصورته الخطابية أو هويته
التلفظية التي تخدم المقصد وتدعم النتيجة التي تنتظم الخطاب ككل.
3-1- الذات المحاججة في
القصيدة:
إن الفعل الكلامي الأكبر الذي ينتظم هذه القصيدة هو فعل
الاعتذار، وباعتماد لغة الحجاج نقول إن الأطروحة هي: "طلب العفو"، ومن
ثمة فالإيتوس الذي يؤسسه المتكلم يغذي هذه النتيجة ويدعمها ليكون خادما وتابعا لها.
(طلب
العفو)
الحجج العاطفية
الحجج المنطقية
الترتيب
الأسلوب
الإيتوس الباتوس
الاستقراء
القياس ترتيب
الحجج ترتيب الخطاب
|
فما هي الصورة التي رسمها كعب بن زهير لنفسه؟ وماهو الأنموذج الذي
نحته من أجل إقناع مخاطبه بصدق دعواه ورجاحة توجهه؟
يتحدد الإيتوس بوصفه طريقة من طرق بناء صورة عن
الذات، أي طريقة التعبير عن الوجود "Manière d’etre" انطلاقا من طريقة القول "Manière de dire" بغاية تحقيق رهانين أساسين لابد من توافرهما في الخطاب الإقناعي حسب "باتريك شارودو" هما رهان الشرعنة [35]"enjeu de Légitimation" ورهان الصدق [36]"enjeu de Crédibilité" من أجل التأثير
في المخاطب، ويروم الأول الإجابة عن السؤال التالي: ما هو الأساس الذي يستند إليه
المتكلم من أجل التلفظ؟ أما الرهان الثاني فيجيب عن الاستفسار الآتي: كيف يؤخذ
كلامي مأخذ الجد؟
تتحدد المشروعية من منظور شارودو في الحق "Le droit" الفاعل "Le sujet" في القول
والفعل، أما الصدق فيتحدد في قدرة "Capacité" الفاعل على القول والفعل، فعندما نشكك في المشروعية "Mettre en cause" فإننا نشكك في
الحق نفسه ولا نشكك في الشخص، أما عندما نشكك في المصداقية، فإننا نشكك في الشخص
لعدم قدرته على إعطاء الدليل الكافي على القول أو الفعل[37].
فكيف استطاع شاعرنا أن يرسم لنفسه صورة الإنسان الصادق؟
وكيف وَسِعه أن يمنح مقوله المشروعية اللازمة؟
تتشكل مشروعية المقول وصدق القائل في قصيدة البردة من
خلال العلاقات والصور الذاتية التالية:
3-1-1- علاقة الشاعر
بالمحبوبة:
لقد عرف عن شعراء المدح ابتداء قصائدهم بالنسيب وذكر
الهجران حتى تكون مقدمة القصيدة سبيلا إلى ما بعدها. وبرجوعنا إلى علاقة الشاعر
بالمحبوبة "سعاد" فإنها لم تكن ودية. بل إن كعبا بدأها بلفظة البين
إيذانا بالهجر والمعاناة الناجمة عن الفراق البعيد. وذهب كثير من الدارسين إلى
تأويل علم "سعاد" من قائل بأنها اسم لامرأة يهواها الشاعر حقيقة، وقائل
إنها زوجته، ومؤوّل لها بالسعادة المنشودة من لدن الشاعر[38] بعد أن هداه
الله للإسلام.
ويهمّنا من استعراض المحبوبة ضمن الحجاج بالعواطف
علاقتها بالشاعر، ذلك أنه وصفها بما يليق بها من جمال ثم أردف ذلك بما يعانيه منها
من صدود يجعل حالته أحق بالشفقة والعطف:
وَمَا سُعادُ غَدَاةَ
الْبَيْنِ إِذْ رَحَلُواْ إِلَّا أَغَنُّ غَضيضُ الطَّرْفِ
مَكْحُولُ
هَيْفَـاءُ
مُقْبِلَةً عَجْزَاءُ مُدْبِـِرَةً لَا يُشتَكَى قِصـَرٌ
مِنْهَا وَلَا طُـولُ
وذكر هذه الصفات دليل على جمالها، فقد جمعت بين غنة الصوت وفتور العين
وسواد خلقي يعلو الجفون، بالإضافة إلى أنها من الهيف "هيفاء" ضامرة
البطن كبيرة العجيزة لا هي بالطويلة ولا هي بالقصيرة. وهذه العناية بالمظهر
الخارجي تأسر الناظرين وتجعل ارتباط الشاعر وتعلّقه بها مسنودا بأدلة الجمال.
لكن الشاعر انطلق من الجمال الشكلي ليبوح بحجم المعاناة
من هذا الجمال الباهر فكانت المفارقة أن هذا الجمال سبب في التعاسة حين ذاق صنوف
العذاب الوجداني وعبّر عن ضعفه أمام المحبوبة التي اختارت البين على الوصال وتركت
الشاعر يشكو من غدرها لتنضاف إلى الوشاة والخلان ساعة إهدار دمه:
أكْرِمْ
بِهَا خُلَّةً لَوْ أَنَّهَا صَدَقَتْ مَوْعُودَهَا
أَوْ لَوْ أَنَّ النُصْحَ مَقْبُولُ
لَكِنَّها خُلَّةٌ قَدْ سِيطَ مِنْ دَمِهَـا
فَجْـعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْـلَافٌ وَتَبْدِيـلُ
فقد سيط من دمها ما يخالطه ويمازجه من المصائب والكذب والإخلاف
والتبديل. فهي لم تَفِ بوعدها، وجعلت الشاعر يعاني بسبب ذلك حين قابلت الإقبال
بالصدود والمحبة بالهجران.
3-1-2- علاقة الشاعر
بالناقة:
إن الشاعر باتخاذه أحسن الرواحل ليركبها، مهجنة قوداء
خفيفة عيرانة متميزة بالسرعة والضخامة؛ وهي أوصاف تكشف عن جمالها وحسنها، فضلا عن
سرعتها وخفة حركاتها؛ يعبّر عن تلهفه وتشوفه للقاء الرسول الكريم، ويبيّن لممدوحه
أنه بإنضاء راحلته وتكبّده حر الهجير وسرى الليل وبتجشّمه عناء هذه الرحلة الطويلة
الشاقة أهل للعفو، وحقيق بأن يُتجاوز عن زلاته، فهذا الإقبال وهذا الارتماء في
أحضان الرسول الكريم يُنِم عن حب وتوق للقاءه، ورغبة أكيدة في نيل عفوه، وبرهان
على صدق مسعاه وصفاء نواياه. فوصف الرحلة والراحلة دأبٌ درج عليه الشعراء القدامى
في قصائدهم المدحية للتدليل على صدق أقوالهم، وقد صورّه لنا ابن قتيبة في بيانه
النقدي يقول بعد أن رصد المقومات البنائية للقصيدة من أطلال ونسيب وتشبيب و"عقّب بإيجاب الحقوق فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر
وسرى الليل وحر الهجير وإنضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه قد أوجب على صاحبه حق
الرجاء وذمامة التأمل وقرّر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح،
فبعثه على المكافأة وهزه للسماح وفضله على الأشباه وصغّر في قدره الجزيل"[39].
وإذا
كان قد تقرر في الحجاج أن العواطف مقومات يسندها العقل[40] ويكفل
نجاعتها المنطق وإلا استحالت مغالطة، تقرر معه أن كعبا قد استند في نحت ملامح
هويته الخطابية إلى المنطق من خلال
توظيف المواضع المشتركة، وتخريجُ ذلك:
-
كل من أقبل إقبال المعترف بذنبه المتشوف إلى العفو فهو أهل للعفو.
-
كعب بن زهير أقبل إقبال المعترف بذنبه المتشوف إلى العفو.
-
كعب بن زهير أهل للعفو.
إن الثابت أن الجاني يتحرى ما وسعه ذلك
النفور والبعد من المجني عليه، خصوصا إذا كان هذا أقوى وأمنع، لكن شاعرنا يبادر بل
يتلهف لمقابلة الرسول r رغم
علمه اليقيني بأنه قد أهدر دمه واستباح قتله، ورغم تحذير الوشاة، ففي ذلك تشوّف
وتوق من الشاعر إلى من وسم في القرآن الكريم أنه بالمؤمنين رؤوف رحيم، ليتحصّل مما
تقدم أن الشاعر باتخاذه أنْضَر الرواحل وأسرعها يتوق إلى لقاء الحبيب ويتلهف إلى
التملي بمجالسته، وهو توق سيتكلّل بنيل بردته r.
3-1-3- صورة التائه
التائب:
تنبني القصيدة في موضوعها الرئيس على عنصر المدح، وقد
جاءت وفق تقاليد القصيدة العربية القديمة، فتأسست على مقدمة غزلية مشفوعة بذكر
الراحلة، وحسن التخلص إلى غرض المدح، لكن الملاحظة الأساسية التي تعنّ لقارئها أن
الشاعر قد أفرد حيزا كبيرا لوصف محبوبته وراحلته، واستعراض مزايا مطيته، مما يبعث
على التساؤل عن مسوغات هذا الاختيار ودوافعه التداولية وأبعاده الحجاجية!
قدم كعب بن زهير نفسه في ثلاثة مواقف متلازمة يدعم
بعضها بعضا وهي علاقته بالمحبوبة وعلاقته بالناقة وعلاقته بالمقام النبوي. وبرهن
على ضعفه المعنوي والجسدي في هذه المواقف التي انهزم فيها فسعى جاهدا إلى التعويض
عن الخسارة بالتوبة النصوح وطرق أبواب النبوة ونبذ أخلاق الجاهلية التي كانت سببا
في إهدار دمه. من خلال توضيح علاقته بالمحبوبة والناقة وتصوير نفسه تصويرا شعريا
يدعم عجزه واعترافه بالخطإ وسعيه إلى تعويض كل هذه الخسائر بربح العفو.
3-1-4- صورة العازم
المتوكِّل:
وهي صورة نحتها الشاعر لنفسه عقب تحذير
الوشاة له:
تَسْعَى الْوُشَاةُ جَنَابَيْهَا
وَقَوْلُهُمُ إِنَّكَ يَا ابْنَ أَبِي سُلْمَى
لَمَقْتُـولُ
وَقَالَ كُلُّ خَلِيلٍ كُـنْتُ آمُلُـهُ لَا
ألْهِيَنَّـكَ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُـولُ
فَقُلْتُ
خَلُّواْ سَبِيلِي لَا أَبَا لَكُـمُ فَكُلُّ مَا قَدَّرَ
الرَّحْمَنُ مَفْعُــولُ
لقد جاء ردّ الشاعر على الوشاة حاسما،
لأن إقدامه هذا وإقباله على الرسول الكريم ليس من قبيل الإلقاء بالنفس إلى التهلكة
والارتماء بها بين أحضان الأخطار، بل هو بحث وتنقير عن سعة الرحمة وفسحة الانعتاق
وهروب من ضيق الحيرة واليأس الذي استشعره الشاعر، فكعب بن زهير يقدم نفسه من خلال
هذه الأقوال في صورة المتوكل على الله الراضي بحكمه، ما دام الموت قدرا مقدورا
يغدو الفرار منه أمرا غير ممكن وبذلك وجبت مواجهته.
كُلُ
ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ طَالَتْ سَلامَتُهُ يَوْماً عَلَى آلَةٍ
حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
لكن كعبا وإن كان يسلم بحتمية الموت،
فإنه كان يعلم يقينا أن العفو عند رسول الله مأمول، وتلك قناعة ترسّخت لديه
بالتوكل على الله والالتجاء إليه تعالى، وبذلك فاستحضار الموت والإقبال على الرسول
الكريم ولّد الأمل في الحياة، لأن في الإقبال على الرسول r إقبالا
على الحياة، وهذه المقومات تكشف لنا صدق الشاعر ورغبته الأكيدة في نيل العفو.
أُنْبِئتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
أَوْعَدَني وَالْعَفُوُ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ مَامُولُ
3-1-5- صورة البريء
المظلوم:
رسم
الشاعر لنفسه صورة الإنسان البريء الذي لم يقترف جرماً يستحق القتل:
لَا تَأَخُذَنِّي
بِأَقْوَالِ الْوُشاةِ وَلَمْ أُذْنِبْ وَلَو كَثُرَتْ فِيَّ
الأَقَاوِيـلُ
من خلال استثمار كلمة "وشاة"
ذات الحمولة القدحية، وهو وصف يندرج ضمن محور القبح، لتكون نتيجة ذلك نفور المخاطب
من هؤلاء ومن أقوالهم.
ينجم عن ذلك أن ما سمعه الرسول r من
أخبار وأقوال افتراء وكذب لا يؤاخذ بها الشاعر، وبهذا يكون بريئا متحلّلا من كل
تلك الأقوال لأنها أقوال وشاة، هذه النظرة القدحية للوشاة تتعضد ببيت آخر ينكّل
فيه الشاعر بهم ويرميهم بأقوال الزور والبهتان:
تَسْعَى
الْوُشَاةُ جَنابَيْهَا وَقَوْلُهُمُ إِنَّكَ يَا ابْنَ
أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُـولُ
فَقُلْتُ
خَلُّواْ سَبِيلِي لَا أَبَا لَكُـمْ فَكُلُّ مَا قَدَّرَ
الرَّحْمَـنُ مَفْعُـولُ
يتحصل من هذين البيتين صدق الشاعر،
وأحقيته بالعفو، فإذا كان الوشاة مؤمنين إيمانا راسخا بمقتل الشاعر بتوظيفهم أسلوب
التوكيد باستعمال "إن" ولام التوكيد، فإن شاعرنا موقن بنجاته مؤمن
ببراءته، لذلك نجده يرد ادعاءاتهم بالتوكل على الرحمن، وبالأمل في نيل العفو من
الرسول الكريم.
4- البعد الحجاجي للأسلوب:
4-1- حجاجية الكلمة:
للكلمة في ذاتها شحنات دلالية مؤثرة في السياق وموجهة له
وجهة دلالية وحجاجية معينة، فهي "ذات مقتضى معجمي تحمله في ذاتها ولا يزودها
به السياق الذي تستخدم فيه، بل الأمر على العكس من ذلك فهي التي من شأنها، بفضل
ذلك المقتضى الذي تحمله، أن تجعل للسياق وقعا معنويا"[41]. ثم إن التداول والاستعمال يكسب الكلمة دلالات إضافية، فهي تدخل
التركيب النحوي "محملة بتاريخها الدلالي الذي اكتسبته من طويل تجربتها
القولية بدخولها في سياقات استعمال كثيرة"[42].
وهكذا فالكلمة تتجاوز كونها مجرد وحدة معجمية مجردة
ومفردة لتكون وحدة معجمية صرفية وإعرابية لها خصائص اقتضائية وتقويمية وتداولية
تسمح لها بأن تؤدي وظيفة حجاجية في الخطاب، كما تكسبها حركة حجاجية عندما تنتزع
موقعها داخل الملفوظ.
وقد وجدنا أن كلمتي الوشاة والرسول كلمتان مركزيتان في
دعوى الشاعر، فإهدار دمه ناتج عن أقوال الوشاة حسب زعمه، وهو زَعْمٌ لو أثبت زيفه
لكان دليل براءته، وهو في الوقت ذاته يخاطب محمدا r بصفته رسول الله
مستغلا كل مقتضيات هذه الصفة كما سنبين:
4-1-1- الوشـاة:
إن الصفة التقويمية الخلقية التي نلحقها بالأشياء
أو الأشخاص تعبر عن موقفنا منهم، وعن توجيهنا للمتلقي نحو هذا الموقف، فقولنا
"عن شيء ما هو حسن يعبر عن استحسان عملي من لدننا، وقولنا عن شيء آخر هو قبيح
يعني أننا ضده فنحن نعبر عن استقباحنا إياه"[43].
ومن ثم جعل الشاعر كلمة الوشاة في مطلع احتجاجه، فقد حاولوا في لحظة
التوبة تثبيطه وإقناعه بالعودة وتخويفه بالقتل:
تَسْعَى الْوُشاةُ جَنابَيْهَا
وَقَوْلُهُمُ إِنَّكَ يَا ابْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ
وهو حريص على إلصاق صفة الوشاية بهم بوصفها صفة مستقبحة، فمتى اقتنع
الرسول r بذلك استبعد كل
ما بلغه عن طريقهم ولم يؤاخذ الشاعر بأقاويلهم:
لَا
تَأَخُذَنِّي بِأَقْوَالِ الْوُشَاةِ وَلَمْ
أُذْنِبْ وَلَوْ كَثُـرَتْ فِيَّ الأَْقَاوِيلُ
وقد كان بإمكان الشاعر أن يعبّر عن هذه المعاني بألفاظ مختلفة (يسعى
الناس/ بأقوال الناس/ يسعى الأعداء/ بأقوال الأعداء..) مما يجعل اختياره للفظ
"الوشاة" مقصودا لذاته لأنه هو الأنجع لتحقيق مقاصد الخطاب، وقد سمّى
القدماء هذه الظاهرة "التنكيت" وهو "أن يقصد المتكلم إلى شيء
بالذكر دون غيره مما يسد مسده لأجل نكتة في المذكور ترجح مجيئه على سواه"[44]. وكل كلمة تنتزع مكانها في الملفوظ لأن المقام يستدعيها هي دون من
غيرها، فللكلمة إذن، حركة سمّاها عبد الله صولة "حركة الكلمة الحجاجية"[45].
وقد عدل الشاعر عن صفات كثيرة واختار صفة
"الوشاية" لأنها الأجدى لخدمة مقاصد خطابه المتمثلة أساسا في إقناع
الرسول r أن جلّ ما بلغه كذب وبهتان.
4-1-2- رسول
الله/الرسول:
اختار الشاعر أن يخاطب رسول الله r بهذه الصفة دون غيرها بل جعلها ركنا رئيسا في خطابه، وكان بإمكانه أن
يخاطب الرسول r باسمه "يا
محمد" أو كنيته "يا أبا القاسم"، وهو أمر مقبول في الشعر وكثير
الورود في الأمداح النبوية، مما يؤكد أن اختياره كان مقصودا لاسيما وأنه تكرر
معرّفا أربع مرات في القصيدة، مرتين على شكل مركب إضافي "رسول الله"،
ومرتين على شكل صفة مفردة معرفة بـ"ال" التعريفية "الرسول".
ولا شك أن صيغة رسول الله لها قيمة حجاجية قوية، فمكانة
الرسول r تستمد من مكانة مرسله، ولما كان أجلّ وأعلى وأكبر مرسل هو الله عز
وجل، ترتب عن ذلك أن أشرف وأعظم رسول هو رسول الله، إنها لفظة تحفظ للمتلقي أعلى مراتبه،
وهي حجة "باتوسية" تخاطب الرسول r وأصحابه. لكن
القوة الحجاجية لهذا الاختيار لا تكمن في الإثارة لأن المتلقي عليه الصلاة والسلام
منزّه عن ذلك، وإنما تكمن في أمرين اثنين:
- أولهما: أن مخاطبة محمد r بصفة "رسول
الله" فيها إقرار صريح بنبوته وفيها إعلان واضح عن الدخول في دين الإسلام،
وهو أمر يحقق مطلب الشاعر في نيل العفو. ويدل على أهمية هذه الصفة رفض كفار قريش
في صلح الحديبية كتابة "رسول الله" في ديباجة الاتفاقية، وقد كانت حجتهم
لو أقررنا أنه رسول الله لما عاديناه.
- ثانيهما: أن اختيار هذه الصفة فيه استدعاء لمقتضياتها التي ستخدم دعوى القصيدة
ولا شك، فإثبات الرسالة لرسول الله تقتضي أن وظيفته هداية الناس ليدخلوا في هذا
الدين، والشاعر قادم ليعلن إسلامه مما يستوجب له حرمة دمه وماله وعرضه.. كما تقتضي
أنه بُعث رحمة للعالمين والشاعر فرد من "العالمين" تجب له الرحمة
والعفو..
أُنْبِئْتُ أَنَّ
رَسُولَ اللَّهِ أَوْعَدَنِي وَالْعَفُوُ عِنْدَ رَسُولِ
اللَّهِ مَامُولُ
أما صفة "الرسول" المعرفة فقد وردت تالية بعد أن أصبح
المخاطب معروفا، ومع ذلك ذكر لفظ الجلالة في المرتين قريبا منها تذكيرا من الشاعر
بمقام الرسالة الرفيع لرفعة وجلال وعظمة المرسل، يقول:
لَظَلَّ يُرْعَدُ
إِلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ مِنَ الرَّسُـولِ بِإِذْنِ
اللَّهِ تَنْوِيـلُ
إن ما بلغ الشاعر من الوعيد وإهدار الدم يقضي على أي أمل في العفو إلا
أن يكون العافي رسول من الله الرحمن الرحيم. ويقول في سياق المدح الصريح لرسول
الله:
إِنَّ الرَّسُولَ
لَنُورٌ يُسْتَضَاءُ بِهِ مُهَنَّدٌ مِنْ سُيوفِ
اللَّهِ مَسْلُـولُ
فكون الرسول سيفاً يقتضي إمكانية قطع رأس الشاعر المهدور دمه، لكنه
سيف من سيوف الله لا يمكنه أن يقطع رأس رجل جاء يعلن إسلامه ويطلب العفو وهو أعزل
إلا من توبته وندمه على ما مضى.
4-2- حجاجية
العبارة:
4-2-1- التوكيـد:
حدد الاسترابادي الغرض من التوكيد في ثلاثة أشياء:
"أحدها أن يمنع المتكلم غفلة السامع عنه. ثانيها أن يدفع ظنّه بالمتكلم
الغلط، فإذا قصد المتكلم أحد هذين الأمرين فلا بد أن يكرّر اللفظ الذي ظن غفلة
السامع عنه، أو ظن أن السامع ظن به الغلط. الثالث أن يدفع عن نفسه ظن السامع به
تجوزا"[46]. والملاحظ أن
هذه الأغراض أغراض تداولية يمكن أن تؤدي أدوارا حجاجية في سياقات معينة.
وبالعودة إلى القصيدة نجد أن التوكيد خاصية أسلوبية
فيها، حيث وظف الشاعر مجموعة من المؤكدات منها أن وإن ونون التوكيد الشديدة ولام
التوكيد وغيرها. وكلها في سياق الدفاع عن النفس والاعتراض على المغالطات التي
نسجها "الوشاة" ومنها:
1- إِنَّكَ يَا
ابْنَ أَبِي سُلْمَى لَمَقْتُولُ.
2- لَا أَلْهِيَنَّكَ
إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ.
3- أُنْبِئْتُ أَنَّ
رَسُولَ الله أَوْعَدَنِي
وَالْعَفْوُ عِنْدَ رَسُولِ الله مَامُولُ.
4- وَقِيلَ إِنَّكَ مَنْسُوبٌ وَمَسْؤُولُ.
تفيد "إن" تأكيد النسبة بين اسمها
وخبرها، وهو تأكيد القصد منه إزالة الشك أو التردد في هذه النسبة من ذهن المتلقي،
ففي المثال الأول يؤكد الشاعر على لسان الوشاة المصير الذي ينتظره وهو القتل، وهو
تأكيد قَوّته لام التوكيد في "لمقتول" أي أن الأمر محسوم ولا نقاش فيه.
ويعيد هذا التأكيد في المثال الرابع بعد أن بيّن ما بلغه من الرسول r من وعيد بإهدار دمه.
إن القيمة الإقناعية لهذا التوكيد تكمن في قياس مضمر يمكن وضع حدوده
على النحو الآتي:
- المقدمة الكبرى: من يُقبل على الاعتذار مع مخاطر الموت فهو صادق في توبته.
- المقدمة الصغرى: الشاعر مصرّ على
الاعتذار مع خطر الموت.
- النتيجة: الشاعر صادق في توبته نادم على فعله.
وقد دعّم الشاعر أقواله بمؤكّدات أخرى، ولا شك أن كل
مؤكد يضاف يرفع مستوى القول باعتباره حجة في السلم الحجاجي ويزيد من الطاقة
الحجاجية للملفوظ، خاصة إذا كان المتلقي جاحدا منكرا أو أراد الشاعر إنزاله منزلة
الشاكّ الجاحد لاعتبارات خطابية تختلف من مقام إلى آخر، ونمثل لذلك بما يلي:
إِنَّكَ لَمَقْتُولُ.
إِنَّكَ مَقْتُولُ.
أَنْتَ مَقْتُولُ.
فنجد أن قوله: "إِنَّكَ يَا ابْنَ أَبِي سُلْمَى
لَمَقْتُولُ" في أعلى السلم الحجاجي، لا يقوم ما تحتها مقامها من حيث القوة
الحجاجية ولذلك اختارها الشاعر على غيرها من الأساليب الممكنة والتي أدرجنا بعضها
في السلم الحجاجي.
لَا أَلْهِيَنَّكَ فَأَنَا عَنْكَ
مَشْغُولُ.
وكذلك الشأن في قوله: "لَا أَلْهِيَنَّكَ إِنِّي
عَنْكَ مَشْغُولُ" فإن العبارة أزاحت ما سواها من صدارة الترتيب على السلم
الحجاجي لأنها أجدر من غيرها في التعبير عن مقصد الشاعر.
4-2-2- النفـي:
يعد النفي آلية إقناعية في الخطاب الطبيعي، تُفَتّت الرأي
المضاد وتدحضه أو تشكك فيه بهدف قلب اعتقاد الخصم أو إبطاله من خلال الجحد المتمثل
في إنكار أطروحته، والتعويض الذي يتعدى الجحد إلى تقديم الأطروحة البديلة[47].
ويسعى النفي إلى الاعتراض على رأي الخصم وتفنيده وكشف
مغالطاته لفتح "ثغرات في البناء الإقناعي الذي يستند إليه"[48]، ليضعف دعواه ويصيبها بالاضطراب.
وقد حضر النفي قي القصيدة بشكل يسمح باعتباره خاصية أسلوبية من خصائصها، وسنحاول الكشف عن أبعاده الحجاجية من خلال
مناقشة الأمثلة التالية:
1- لَمْ أُذْنِبْ وَإِنْ كَثُرَتْ فِيَّ الْأَقَاوِيلُ.
2- حَتَّى وَضَعْتُ يَمِينِي لَا
أُنَازِعُهُ فِي كَفٍّ
ذِي نَقِمَاتٍ قِيلُهُ الْقِيلُ.
3- لَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَترُكَ الْقُرْنَ إِلَّا
وَهْوَ مَجْدُولُ.
4- وَلَا تَمَشَّى بِوَادِيهِ الْأَرَاجِيلُ.
5- وَلَا كُشُفٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا مِيلٌ مَعَازِيلُ.
6- لَا يَفْرَحُونَ إِذَا نَالَتْ رِمَاحُهُمُ قَوْماً.
7- لَيْسُواْ مَجَازِيعاً إِذَا نِيلُواْ.
لا شك أن الجحد أو الإنكار أو الإبطال أو الاعتراض وظيفة
أصيلة في النفي غايتها إعادة الخصم إلى نقطة البداية، وتلزمه بالبينة والدليل على
قوله:
- ففي المثال
الأول ينفي الشاعر عن نفسه الذنب ولو كثرت الأقاويل التي لا تستند إلى دليل، وهو
بذلك يلزم الوشاة بإثبات ادعاءاتهم.
- وأمّا في المثال
الثاني فيدلّل على أنه جاء لمبايعة الرسول r بيعة لا تنكث
بقوله: "حَتَّى وَضَعْتُ يَمِينِي لَا أُنَازِعُهُ.."، وهو نفي يتجاوز
الجحد إلى التعويض ليحوّل الاتجاه الحجاجي لصالح أطروحته إذ يعوّض اتهام الوشاة له
بسبّ الرسول عليه الصلاة والسلام ببيعة صريحة لا رجعة فيها.
- وأمّا في المثال
الثالث فقد جاء التعبير في سياق المدح، إذ شبّه الشاعر الرسول r بالأسد في الشجاعة والقوة والقدرة على الفتك بالأعداء "لَا
يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَترُكَ الْقُرْنَ إِلَّا وَهْوَ مَجْدُولُ".
- وإذا كان من شأن
الأسد الجائعة والساعية لإطعام صغارها أن تفتك بفرائسها وتقطّعها إربا، مما يجعل
مواجهتها تثير الرعب في النفوس، فإن لقاء الرسول r أهيب لدى الشاعر من ليوث الأسد، خاصة عندما قيل له: "إِنَّكَ مَنْسوبٌ وَمَسؤولُ" عما نسب إليك من
أقاويل.
فجاء أسلوب النفي للدلالة على إصرار الشاعر على
مواجهة مصيره رغم ما يحفّ هذه الطريق من مخاطر أفظعها أن يقتل على الكفر.
فكان مجيئه إلى الرسول r دليلا
على صدقِ نواياه وصحّة اعتراضه على أقوال الوشاة المطالَبين بالأدلة.
- أما الأمثلة الأربعة الأخيرة ففيها مدح لصحابة رسول الله، وقد جعل
الشاعر النفي وسيلة للمدح فأبعد عنهم من خلاله كل نقيصة، فهم الذين هاجروا مع رسول
الله ليس خوفاً ولا جبناً، فهم الأقوياء الذين لا ينكشفون في القتال ولا ينعزلون
"وَلَا كُشُفٌ عِنْدَ اللِّقَاءِ وَلَا ميلٌ مَعَازِيلُ". اعتادوا
الجهاد في سبيل الله فلا يفرحون إذا نالوا من أعدائهم ولا يجزعون إذا نال منهم
الأعداء فهم:
لَا يَفْرَحُونَ
إِذَا نَالَتْ رِمَاحُهُمُ قَوْماً وَلَيْسُواْ مَجَازِيعاً
إِذَا نِيلُواْ
وقد أدّى النفي في هذه الأمثلة وظيفة تقويمية، حيث عكس موقف الشاعر من
صحابة رسول الله، لأن أي إساءة لهم -رضي الله عنهم- هي إساءة غير مباشرة للرسول r، ثم إن إساءة الشاعر
السابقة لم تمس الرسول وحده بل مسّت الصحابة كذلك، مما جعل الاعتذار لا يكتمل إلا
بنفي كل ما ألصقه بهم سابقا.
4-3- الروابط
والعوامل الحجاجية:
أشار أبو بكر العزاوي
إلى عدة أنواع من الروابط، وميز بينها وبين
العوامل الحجاجية[49]، ويمكن التمييز بين نوعين من الروابط:
- روابط مدرجة
للحجج.
- روابط مدرجة
للنتائج.
ولا يقف دور الروابط عند حدود الربط بين الجمل، بل يتعدى ذلك إلى
المساهمة في بناء المعنى وتوجيه الحجاج[50].
أما العوامل الحجاجية فتقوم بمهمة حصر الإمكانات الحجاجية للعبارة
"باستثمار
وكلما رغب المتكلم في توجيه كلامه توجيها حجاجيا،
استغل الطاقة الحجاجية للعوامل والروابط الحجاجية نظرا لقدرتهما على رسم المسار
التأويلي للقول حيث إن "العوامل والروابط الحجاجية أهم موضع ينعكس فيه هذا
التوجه الحجاجي"[52].
وبتتبع الروابط والعوامل الحجاجية في القصيدة نجدها في
خدمة التوجيه الحجاجي للقول نحو الاعتذار والدفع بالتهمة الأساسية إلى الهامش مع
الحرص على التوجه العقدي الجديد الذي يَجُبُّ ما قبله.
ويتضح هذا الوسم الحجاجي في طريقة ترتيب الأولويات في
مقام النبوة على الخصوص، حيث جاء الرابط الحجاجي في الأبيات الموالية داعما
لأطروحة الشاعر داحضا لأطروحة الوشاة.
أُنْبِئتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
أَوْعَدَنِي وَالْعَفُوُ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ مَامُولُ
فَقَدْ أَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ
مُعْتَذِراً وَالْعُذْرُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ
مَقْبُولُ
لَا تَأَخُذَنِّي
بِأَقْوَالِ الْوُشاةِ وَلَمْ أُذْنِبْ وَلَو
كَثُرَتْ فِيَّ الأَقَاوِيلُ
إن رابط الواو في الأبيات الثلاثة، بالإضافة إلى دوره التقليدي في
الربط بين الحجج أو بينها وبين النتائج، استطاع أن يقوم بدور محوري في التوجيه
الحجاجي للقول من خلال جعل ما يليه داحضا لما قبله.
فالعفو المأمول في عند رسول الله داحض للوعيد السابق، والعذر المقبول
عند رسول الله دافع للذنب السالف، والحضور الفعلي أمام رسول الله نافٍ لأقوال
الوشاة.
وإذا كان الوعيد نتيجة لأدلة سابقة، فإن العفو نتيجة للاعتذار الحالي.
ولأن الأدلة التي بُني عليها حُكم "إهدار الدم" من صنع
الوشاة. فإن الحقيقة هي ما يصرح به الشاعر أمام رسول الله r، وبذلك يكون الرابط
الحجاجي "الواو" أداة للربط بين الحجج والنتائج. ووسيلة للتوجيه الحجاجي
وفق مسار يخدم أطروحة الشاعر ويدحض ما سواها.
وكان للعامل الحجاجي الدور نفسه في التوجيه الحجاجي
عندما اتخذه الشاعر أداة لجعل الاعتذار يطال الصحابة رضوان الله عليهم في قوله:
لاَ يَقَعُ الطَّعْنُ إِلَّا فِي
نُحُورِهِمْ وَمَا لَهُمْ عِنْدَ حِيَاضِ الْمَوْتِ تَهْلِيلُ
فهم أناس مَقَاتِلُهُمْ في نحورهم لا يَفِرُّونَ من الموت فرار
الجبناء؛ وإنما يواجهون الأعداء دون مهابة، حتى إذا دنا أجل أحدهم ووقع الطعن في
نحره نال الشهادة، وهي كناية عن الإقدام للنصر أو الصبر على الاستشهاد. وفيه من
الشجاعة والأنفة والاعتزاز ما لا يخفى؛ فهم لا يفرّون حتى يقع الطعن في ظهورهم.
وبهذه الصيغة: "لا ــــــ إلا" يحصر الشاعر الطاقة الحجاجية
للعبارة ويجعل القول غير قابل للتأويل المتعدد.
4-4 الموجهات
الحجاجية:
يُقصد بالموجهات الحجاجية مجموع العبارات -غير البريئة-
التي يوظفها المتكلم مستفيدا من دلالتها ومستعينا بالسياق الذي أنتجت فيه لتسويغ
تدخل ذاته في بلوغ المعنى المراد وتقوية الوجهة الحجاجية المأمولة.
والحديث عن التوجيه الحجاجي يجعل موقف المتكلم حاضراً في
الملفوظ؛ بل إن الموجهات الحجاجية "تكشف عن علاقة المتكلم بكلامه، وتوضح بشكل
جلي موقفه من ملفوظه"[53].
ولا يقف التوجيه الحجاجي عند الدلالة الوضعية للألفاظ،
وإنما يتوغّل ليشمل المعنى المقامي بما في ذلك رأي المتكلم والطريقة التي يصوغ بها
الأحداث وموقفه من القول[54].
وإذا رجعنا إلى القصيدة فإنها تقوم على أساس واحد هو طلب
العفو من الرسول r. هذا الأساس تمت خدمته من محاور ثلاث كانت فاعلا جوهريا في بنية
التعارض الحاصل بين الآراء وعاملا حاسماً في النتائج المتولدة عن هذا التعارض.
وهذه المحاور هي:
- الرسول
- الشاعر
- الوشاة.
أما الرسول r فقد أهدر دم
الشاعر انطلاقا مما بدر منه من إساءة. وهو في موقف قوي لا قدرة للشاعر على
مواجهته، وليس أمامه إلا أن يعتذر إيمانا منه أن العفو عند رسول الله مامول:
أُنْبِئتُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ
أَوْعَدَنِي وَالْعَفُوُ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ مَامُولُ
وأما الشاعر فقد انهزم في كل المعارك مع المحبوبة
والخلان والرسول r، ولم يبق أمامه إلا أن يسلك طريق النجاة الوحيد والمتفرّد وهو
الاعتذار.
وأما الوشاة فكانوا شمّاعة علّق عليها الشاعر كل نكساته، ولذلك ذكرهم
في القصيدة مع الحرص على جعل دورهم ينحصر في نقل الأخبار الزائفة.
ولذلك كانت عبارات الضعف الدالة على الشاعر في مقام
الاعتذار منتقاة بعناية ومتضمنة لموقفه من الأحداث. وقد هيّأ منها ما يجعله مثيرا
للشفقة بعد أن سُدَّت في وجهه كل الطرق وأفرد إفراد البعير الأجرب عندما تركته
المحبوبة والخلان وفرّ منه الناس:
وَقَالَ
كُلُّ خَلِيـلٍ كُنْتُ آمُلُـهُ
لَا ألْهِيَنَّكَ إِنِّي عَنْكَ مَشْغُولُ
فَقُلتُ خَلُّواْ سَبِيلِي لَا
أَبَا لَكُـمْ فَكُلُّ
مَا قَدَّرَ الرَّحْمَنُ مَفْعُولُ
كُلُ ابْنِ أُنْثَى وَإِنْ
طَالَتْ سَلاَمَتُهُ
يَوْماً عَلَى آلَةٍ حَدْبَاءَ مَحْمُولُ
وكان التركيز على حجم المعاناة داعيا إلى اختيار الألفاظ الدالة على
العزلة والإحساس بانحسار الأفق. لذلك تذكر المصير المحتوم وجعل منه عاملا مساعداً
للإقدام على الاعتذار وترك دوافع التوجس والخوف جانبا.
واستبدل لغته الجاهلية بلغة تمتح من الحقل الديني الجديد
وتجعله مهيمنا وموجها للبعد الحجاجي للقصيدة، فذكر رسول الله، وسيوف الله، والقرآن
الكريم، والرسول وغيرها من الموجهات الحجاجية ذات الحمولة الدينية سعيا منه
لاتخاذها مسلكا نحو العفو، فكان له
ذلك، ونالت قصيدته شهرتها لاقترانها بالاعتذار للرسول r الذي قبله وكافأه عليها ببردته.
هكذا غيرت هذه القصيدة مسار حياة كعب لتخلصه من الموت
الذي كان يترصده، فحوّلته من طريد مُدان إلى قريب مُصان، بما أحدثته من تأثير في
نفس الرسول r.
خاتمــة:
استطاعت قصيدة
كعب بن زهير أن تجمع بين الإمتاع والإقناع. وأن تختزل تجربة شعرية رائدة حققت
لصاحبها العفو والشهرة، وعكست ملامح القصيدة العربية بجلاء، حيث راهنت على حسن
الإيقاع وجودة التركيب وجمالية الصورة ولم تغفل الاعتناء بالرسائل الشعرية ذات
الصلة بالمقصد من القول.
وبعيدا عن المقام الخطابي والدوافع الموضوعية والفنية
التي حدت بالشاعر إلى إبداع "بانت سعاد" فإن جماليتها تؤول بالأساس إلى
قدرته على انتقاء الألفاظ الجزلة ذات الجرس الحاد والرنين القوي المسنود بالتكرير
اللفظي (المشاكلة)، والمدعوم بأساليب التوكيد التي تزيد الكلام قوة والمعاني
تأكيداً وترسيخاً، وهو ما يكشف عن جودة الصياغة وحسن السّبك، ويشي بتمكّن كعب من
تطويع اللغة لصناعة القول الشعري؛ وما توشية القصيدة بالكلمات الموحية الأكثر وقعا
والأشد تأثيرا في النفوس المستجيبة لقوانين المراوحة بين المعاني الشعرية والمعاني
الخطابية بعيدا عن أي تمحل أو تكلف، إلا دليلا على قوة الصنعة التي اتخذها خدمة
للغرض الرئيس: غرض الاعتذار الذي جعله بؤرة قدّمه في نسق فني بدءا بذكر المحبوبة
في مطلع القصيدة مرورا بوصف الراحلة وانتهاء بالمديح النبوي.
لقد أراد كعب بذكر النسيب أن يبرز حجم المعاناة التي
كابدها من قبل المحبوبة الغادرة، وبوصف الراحلة أن يظهر حد المشقة والعنت الذي
جابهه في مسيره، لينضاف كل ذلك إلى تنكر الخلان وهي جميعاً معيقات لاقاها في طريق
رحلة التوبة التي اختارها رغم ما يكتنفها من أخطار وما يحفّها من مشاكل.
هكذا توقف كعب في قصيدته عند كل هذه المحطات ليصل إلى
المحطة الأخيرة المتمثلة في "طلب العفو والدفاع عن البراءة".
لقد أتاحت هذه القصيدة من خلال الإنصات لنبضها الحجاجي
الخلوص إلى مجموعة من النتائج لعل أبرزها:
- استجابتها للتحليل الحجاجي، خاصة وأنها ذات نزوع خطابي إذ جعلت
الاعتذار مقاما خطابيا انبنت عليه باقي الموضوعات، مما أسهم في دعم بنية العرض
والاعتراض وأتاح الفرصة للأصوات المختلفة في الرأي أن تفصح عن ذواتها بالحجج
والأدلة.
- قدرة الشاعر على استغلال الالتباس اللغوي في توجيه العبارات توجيها
حجاجيا دفع بالاتهام إلى الهامش وكرّس هيمنة البراءة والأمل في العفو بالتركيز على
الوقائع والحقائق المغلبة للعفو على الانتقام والمستمدة من الأخلاق المحمدية
والتعاليم الدينية.
- منح الحجاج بالعواطف مساحة كبيرة ضمن الحيّز الإجمالي للنص، خاصة
الحجج الباتوسية. مما يؤكّد دراية الشاعر بمنزلة العواطف في توجيه نوازع
المتلقي وحرصه على المراوحة بين المعاني مع تغليب نوازع الرحمة لعلمه الراسخ أن
الرسول r لا يبني الأحكام الشرعية على العواطف والمغالطات.
- توظيف القيم والحقائق بشكل حجاجي يقلّل من نوازع الاعتراض، خاصة أن
الشاعر يرنو إلى تقليص هوّة الخلاف ويسعى إلى جعل ذلك مدخلا لقبول الاعتذار ونيل
الصفح النبوي. وقد تأتّى له ذلك.
لائحة المصادر والمراجع:
أ- العربية:
- القرآن الكريم، رواية
ورش عن نافع.
- الزبيدي مرتضى، تاج العروس من جواهر القاموس، تح مجموعة من
المحققين، دار الهداية.
- أعراب حبيب، الحجاج والاستدلال الحجاجي، "عناصر استقصاء
نظري"، عالم الفكر، مجلة دورية محكّمة، الكويت، ع1، سنتمبر 2001م.
- ابن أبي الأصبع المصري، بديع القرآن، تح حفني محمد شرف، مكتبة نهضة مصر، ط1، 1377هـ/1957م.
- التجاجي التزنيتي أبو
الوفاء سحسى أحمد بن علي، نيل الأمنية على القصيدة الكعبية شرح قصيدة بانت سعاد،
مطبعة النجاح الجديدة، الدارالبيضاء، ط1، 2008م.
- البخاري، كتاب المناقب
باب صفة النبي صلى الله عليه و سلم، فتح الباري تح: ابن باز.
- الجرجاني عبد القاهر،
دلائل الإعجاز، قرأه وعلّق عليه أبو فهر محمود محمد شاكر..
- الجمحي ابن سلام، طبقات
فحول الشعراء، قرأه وشرحه شاكر محمود محمد، مطبعة المدني،القاهرة، د ط، د ت.
- حاتم عبيد، منزلة
العواطف في نظريات الحجاج، ضمن: الحجاج مفهومه ومجالاته، إشراف حافظي علوي، ابن
النديم للنشر والتوزيع، دار الروافد الثقافية، ط1، 2013م، 1/461.
- حاتم عبيد، في تحليل
الخطاب، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، ط1، 2013م.
- ابن الحاجب، شرح الكافية في النحو، تح رحاب عكاوي، دار الفكر العربي، بيروت 2000م.
- الرازي فخر الدين،
التفسير الكبير، المطبعة البهية المصرية، ط1، 1938م.
- الراضي رشيد، الحجاجيات
اللسانية عند انسكومبر وديكرو، عالم الفكر، ع 1، المجلد 34، يوليوز/غشت
2005م.
- الرقيبي رضوان،
الاستدلال الحجاجي التداولي، عالم الفكر، ع 2، المجلد 40، أكتوبر/ دجنبر 2011م.
- الزماني كمال، حجاجية
الأسلوب في الخطابة السياسية لدى الإمام علي، أطروحة مرقونة بكلية اللغة العربية – مراكش.
- الشرقاوي إقبال أحمد،
بانت سعاد في إلمامات شتى، دار الغرب الإسلامي، بيروت-لبنان،
ط1، 1991م..
- صولة عبد الله، الحجاج في القرآن من خلال أهم خصائصه
الأسلوبية، دار الفارابي، بيروت-
لبنان، ط2، 2007م.
- ابن عبد البر
يوسف بن عبد الله بن محمد، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تح: علي محمد البجاوي، مكتبة
نهضة مصر ومطبعتها الفجّالة، القاهرة- مصر، 1314هـ.
- ابن قتيبة الدينوري،
الشعر والشعراء، تحقيق وشرح: أحمد محمد شاكر، دار المعارف، القاهرة، د ت.
- القرطاجني أبو الحسن
حازم، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تقديم وتحقيق ابن الخوجة محمد الحبيب، دار
الغرب الإسلامي، بيروت-لبنان، ط3، 1986م.
- المبخوث شكري،
الاستدلال البلاغي، دار المعرفة للنشر وكلية الآداب والفنون والإنسانيات - وحدة
البحث في تحليل الخطاب، منوبة، ط1، 2006م.
- المتوكل أحمد، الوظيفة والبنية مقاربات وظيفية لبعض قضايا التراكيب في اللغة العربية، مطابع منشورات عكاظ، الرباط، 1993م.
- ابن منظور، لسان العرب،
تحقيق عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله، هاشم محمد الشاذلي، دار المعارف،
القاهرة.
- عبد اللطيف عادل، بلاغة
الإقناع في المناظرة، منشورات ضفاف ـ لبنان، منشورات الاختلاف-الجزائر، ط1، 2013م.
- العزاوي أبو بكر، اللغة والحجاج، مؤسسة الرحاب
الحديثة، بيروت، 2009م.
ب- الأجنبية:
- Francis jacques: l’analyse des enonces moraux avant Austin, in theorie des actes de langage, etique et droit ,PUF. 1986.
- Kerbrat Orecchioni. L’enonciation de la subjectivité dans le
langage. Armond colin, Paris. 1980.
- L Danon Boileau: le sujet de l’enonciation. Ophrys, Paris. 1987.
- Patrick Charaudeau: De L’argumentation entre les visées d’influence
de la situation de communication (Argumentation manipulation, Persuation) L’Harmattan, 2007. Paris.
- Patrick Charaudeau: Le discours politique. Les masques du
pouvoir. Vuibert, Paris .2005.
- Chaim Perlman et Lucie Olbrechts-Tyteca: Traité de l’argumentation )La nouvelle rhétorique( , Editions de l’université de
Bruxelles, 5ème édition,
2000.
- R Amossy: Lapresentation de soi. Ethos et identité verbale. Nathan,
paris. 2000
1-ابن منظور، لسان العرب،
تح عبد الله علي الكبير، محمد أحمد حسب الله، هاشم محمد الشاذلي، دار المعارف،
القاهرة، مادة: [ح.ج.ج].
[3] - يطلق الرازي هذا
الوصف على أهل الجدل الذين من شأنهم أن لا يقتنعوا إلا بعد أخذ ورد . ينظر التفسير
الكبير، المطبعة البهية
المصرية، ط1، 1938م، 20/139.
[4] - القرطاجني أبو
الحسن حازم، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تقديم وتحقيق ابن الخوجة محمد الحبيب،
دار الغرب الإسلامي،
بيروت-لبنان، ط3، 1986م، ص: 293.
[5] - المبخوث شكري،
الاستدلال البلاغي، دار المعرفة للنشر وكلية الآداب والفنون والإنسانيات - وحدة
البحث في تحليل الخطاب،
منوبة، ط1، 2006م، ص: 24.
[7] - حبيب أعراب، الحجاج والاستدلال الحجاجي، "عناصر استقصاء
نظري"، عالم الفكر، مجلة دورية محكّمة، الكويت، ع1، سنتمبر
2001م، ص:124.
[8] - الجرجاني عبد
القاهر، دلائل الإعجاز، قرأه وعلّق
عليه محمود محمد شاكر، مطبعة المدني، ط3، 1992م، ص: 43 .
[12] - رتبه الجمحي ابن
سلام ضمن الطبقة الثانية من شعراء الجاهلية ضمن كتابه: طبقات فحول الشعراء، قرأه
وشرحه: محمود
محمد شاكر، مطبعة المدني،القاهرة، د ط، د ت،
1/99.
[13]- الشرقاوي إقبال
أحمد، بانت سعاد في إلمامات شتى، دار الغرب الإسلامي،
بيروت-لبنان، ط1، 1991م، ص: 18.
[19]- ابن عبد البر يوسف بن عبد الله بن محمد، الاستيعاب في معرفة الأصحاب، تح: علي محمد البجاوي، مكتبة نهضة مصر
ومطبعتها
الفجّالة، القاهرة- مصر، 3/1314هـ.
[20]- التجاجي
التزنيتي أبو الوفاء يحيى أحمد بن علي، نيل الأمنية على القصيدة الكعبية شرح قصيدة
بانت سعاد، مطبعة النجاح
الجديدة، الدارالبيضاء، ط1، 2008م، ص:117.
Editions de l’université de Bruxelles,
5ème édition, 2000, p : 89-90
[27] - ابن سلام
الجمحي، طبقات فحول الشعراء، ص: 102. وابن قتيبة
الدينوري، الشعر والشعراء، تح: مفيد قميحة، دار الكتب العلمية،
بيروت-لبنان، د ط، 1981م، 1/60.
K Orecchioni: L’enonciation de la subjectivité dans la langue. A
Colin, Paris. 1980-
[33]- كثيرة هي الدراسات المهتمة بتحليل الخطاب التي بأّرت عنصر الإيتوس ونظرت إلى المتكلم بوصفه ذاتا فاعلة في نجاعة الخطاب:
-R Amossy: Lapresentation de soi. Ethos et
identité verbale. Nathan, paris. 2000
-L Danon Boileau: le sujet de l’enonciation. Ophrys, Paris.
1987.
-Kerbrat Orecchioni: L’enonciation de la subjectivité dans le
langage. Armond colin, Paris. 1980.
[34] - نسمي النتيجة الكبرى ذلك المقصد الإجمالي الذي ينتظم الخطاب ككل، فالمتكلم عندما ينتج خطابا ما يكون ذلك بغاية الدفاع عن
أطروحة معينة، لذلك نجده يسخّر كل الوسائل و الآليات اللسانية والمنطقية والعاطفية للدفاع عنها.
communication (Argumentation manipulation, Persuation) L’Harmattan, Paris. 2007.
P: 19.
[40]- حاتم عبيد، منزلة العواطف في نظريات الحجاج، ضمن: الحجاج مفهومه
ومجالاته، إشراف حافظي علوي، ابن النديم للنشر
والتوزيع، دار الروافد الثقافية، ط1، 2013م، 1/461.
[41]- صولة عبد الله، الحجاج
في القرآن من خلال أهم خصائصه الأسلوبية، دار
الفارابي، بيروت-لبنان، ط2، 2007م، ص: 71.
[43]- Francis jacques: l’analyse des
enonces moraux avant Austin, in theorie des actes de langage, etique
et droit ,PUF. 1986, p :64.
[44]- ابن أبي الأصبع المصري، بديع القرآن، تح حفني محمد شرف، مكتبة نهضة مصر، ط1، 1377هـ/1957م، ص: 212.
[47]- المتوكل أحمد، الوظيفة والبنية مقاربات وظيفية لبعض قضايا التراكيب في اللغة العربية، مطابع منشورات عكاظ، الرباط، 1993م،
ص: 102.
[48] - عبد اللطيف
عادل، بلاغة الإقناع في المناظرة، منشورات ضفاف-لبنان، منشورات الاختلاف-الجزائر،
ط1، 2013م، ص: 227.
[50] - الرقيبي رضوان،
الاستدلال الحجاجي التداولي، عالم الفكر، ع 2، المجلد 40، أكتوبر/ دجنبر 2011م، ص:
101.
[51] - الزماني كمال،
حجاجية الأسلوب في الخطابة السياسية لدى الإمام علي، أطروحة مرقونة بكلية اللغة
العربية –
مراكش، ص: 91.
[52] - الراضي رشيد،
الحجاجيات اللسانية عند انسكومبر وديكرو، عالم الفكر، ع 1، المجلد 34، يوليوز/غشت
2005م،
ص: 234.
-
المرجع نفسه، ص: 243.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire