lundi 30 mai 2016

رسالة ابن غرسية في ذم العرب
مقاربة بلاغية حجاجية
احمد قادم
كلية اللغة العربية- مراكش

تمهيد:
تتغيا هذه الدراسة تتبع الخصائص الحجاجية التي تزخر بها رسالة ابن غرسية في ذم العرب[1]. ولا شك أن للموضوع أهميته:
أولا: لأن نظرية الحجاج أضحت من أهم المداخل التي يمكن التوسل بها لاستنطاق النصوص والخروج منها بخلاصات متعددة، خاصة تلك النصوص التي تتخذ من الإقناع غاية لها.
ثانيا: لأن هذه الرسالة التي أنشأها ابن غرسية انتزعت مكانتها من كتاب "الذخيرة لابن بسام"، واستحقت أن تكون جزءا من "محاسن أهل الجزيرة" نظرا لجودة أسلوبها.
ثالثا: لأن صاحبها بناها على أسس حجاجية، مردها إلى اقتران الخطاب بالادعاء والاعتراض. وتوافر جملة من المؤشرات التي تدعم القصد التبليغي من الخطاب.
وسأتناول هذه الرسالة من ثلاثة جوانب هي:
أ - البراهين.
ب - الأسلوب.
ج - الترتيب.
 على أن دراسة هذه الأقسام سوف تكون مسيجة بالتأطير النظري الذي يؤصل لكل قسم منها بالقدر المعين على التحليل، وحسب ما تمليه المعطيات المتوافرة في النص موضوع الدراسة.
تأطير النص:
ورد الرسالة في "الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة" لابن بسام الشنتريني. وهي موجهة من أبي عامر بن غرسية إلى الأديب أبي جعفر بن الخراز. والسبب المعلن في تأليفها كما صرح بذلك ابن بسام هو معاتبة أبي جعفر على تركه مدح مجاهد واقتصاره على مدائح ابن صمادح التجيبي.
ويتضح من خلال قراءتنا لها أنها تفصح عن معاتبة شخص بعينه وتضمر ذم العرب. وقد فطن ابن بسام لهذا فقدم لها بقوله: "وهي رسالة ذميمة غرب في تسطيرها، فلم يسبق لكثرة غلطه وزللـه إلى نظيرها، وذم فيها العرب وفخر بقومه العجم"[2].
وبرجوعنا إلى هذا التقديم الموجه، نقف على مجموعة من الخلاصات يمكن تصنيفها إلى قسمين:
أ‌-       قسم معلن: مفاده توجيه اللوم لابن الخراز لتركه مدح مجاهد.
ب‌-   قسم مضمر: مفاده أن الرسالة تجاوزت اللوم إلى استقصاء النقائص والاجتهاد في ذم العرب.
ونتج عن هذا سعي حثيث من قبل صاحب الذخيرة إلى توجيه القاري إلى المقاصد الحقيقية للقول المبلغ، معولا في ذلك على تجاوب المتلقي ومستعينا بجملة من المؤشرات الدالة والتي يمكن اعتبارها موجهات حجاجية نصنفها بدورها إلى قسمين:
أ- قسم خاص بحقيقة صاحب الرسالة، وجاء فيه على لسان صاحب الذخيرة ما نصه: "وأخبرني برسالته التي رد فيها على أبي عامر بن غرسية هذا نحاه الله وأبعده..."[3]. والدعاء على منشئ الرسالة يعطي للقارئ صورة عن طبيعة الشخص الذي سيقرأ له وهو بعد يفضح نواياه الثاوية خلف اللوم، ويفصح عن المرامي الحقيقية للكتابة في هذا الموضوع.
ب– وقسم خاص بالرسالة: وهي رغم ذمامتها على مستوى المضامين، إلا أنها ذات أسلوب غاية في الجودة. وهذا الأمر يفسره تعليق ابن بسام عليها أثناء تقديمه بقوله: "وإن كانت طويلة فهي غير مملولة، لما تشتمل عليه من المآثر العربية، والمفاخر الإسلامية"[4].
والقارئ لهذه الديباجة يقف حائرا بين الحط من قيمة الرسالة، والرفع من شأنها في الآن نفسه. وهو التباس لن يزول إلا بقراءتها، إذ رغم الأحكام النقدية غير المبررة من لدن ابن بسام، فإنها تفصح عن جوانب مهمة من مكنونها وأسلوبها وطرائق تصريف المعاني فيها. ومن ثمة خلصنا إلى أن الانتقاد كان موجها إلى المضامين التي تذم العرب، والتنويه خاص بأسلوبها وطواعية لغتها.
ولا غرو ففساد الدليل لا يلغي قوة الأسلوب، وحتى نكون أقرب إلى هذه الرسالة، ارتأينا أن نتناولها تناولا حجاجيا، يتكامل فيه النظر في البراهين والأدلة الداعمة للعرض والاعتراض مع جمالية الأسلوب وتقنيات التعبير والتواصل، دون إغفال لمراتب الحجج الطبيعية وتماسكها وملاءمتها للمقام.
I - البراهين:
ويطلق عليها أيضا التصديقات. وتشمل هذه التسمية كل المواد التي يمكن التذرع بها لأجل حصول الإقناع. وقد قسمها أرسطو إلى قسمين كبيرين هما:
-         البراهين الصناعية.
-         والبراهين غير الصناعية.
وجاء في "الخطابة" ما نصه: "فأما التصديقات فمنها بصناعة، ومنها بغير صناعة. وقد أعني باللاتي بغير صناعة تلك التي ليست تكون بحيلة منا، لكن بأمور متقدمة، كمثل الشهود والعذاب والكتب والصكاك وما أشبه ذلك، وأما اللاتي بالصناعة فما أمكن إعداده وتثبيته على ما ينبغي بالحيلة وبأنفسنا"[5].
ويتضح من خلال هذا النص أن البراهين غير الصناعية تكون جاهزة وبذلك يقتصر عمل المستدل بها على تبنيها إذا وجد فيها مناسبة لما هو عليه من الاستدلال. بخلاف البراهين الصناعية التي تستمد أهميتها في بناء القول الحجاجي من القدرة على إعدادها وتثبيتها على ما ينبغي بالحيلة وبأنفسنا. ولذلك أعلى أرسطو من شانها وجعلها عنوان تألق الخطيب ودليلا على مهارته في تمثيل القواعد الحجاجية وإتقانها[6].
وقد قسم أرسطو التصديقات الصناعية إلى ثلاثة أنواع هي على التوالي:
أ- الايتوس Ethos: وله صلة "بكيفية المتكلم وسمته"[7]. أو لنقُل إن الخطيب يحتاج لكي يكون محل تصديق المتلقي أن يكون صالحا. فالصالحون: "هم المصدقون سريعا بالأكثر في جميع الأمور الظاهرة"[8].
ب- الباتوس Pathos: وله صلة بنوازع المتلقي. فلا ينبغي أن يكون المرء صادقا فحسب، بل من النافع إثارة الانفعال واستفزاز العواطف، وهو ما يكون "بتهيئة السامع واستدراجه نحو الأمر"[9]. فعملية الإقناع ليست عقلية خالصة، بل تحوز العواطف أهمية كبرى في الاستدراج نحو الإقناع.
ج- اللوغوس Logos: وهي الحجج التي تتصل بالخطبة نفسها. إلا أن هذا القسم الثالث يطرح إشكالا "لأن الحدود بين ما هو لغوي وما هو فكري غير قائمة"[10]. وعموما إن الحجج التي تتصل بالكلام نفسه، إشارة إلى لغة الخطيب، وهي إما لغة شفاهية أو مكتوبة. أو بعبارة أخرى هي كل ما يبنيه الخطاب "من وجوه الاستدلال المتحقق بالقياس والاستقراء وما يتضمنه من التصديقات"[11] التي تتخذ من اللغة مرجعا لها.
وانسجاما مع هذا الطرح النظري نحاول مساءلة رسالة ابن غرسية والوقوف على طبيعة البراهين الموظفة لديه في الدفاع عن الدعوى التي أقامها.
1- البراهين الجاهزة في رسالة ابن غرسية:
ويمكن تقسيمها إلى قسمين كبيرين:
أ‌-       براهين جاهزة مدعمة لأفضلية العجم على العرب.
ب‌-   براهين جاهزة مثبتة لذمامة العرب.
وهي في الجملة لا تخرج عن المأثور الشعري، وكلاها تفضي إلى الأخرى. وقد سيقت بحسب ملائمة مضامينها لمضمون الرسالة. وكان إدماجها بطريقة تسلب البرهان الجاهز دلالته الأصلية، وتمنحه دلالة سياقية جديدة. كما أنها أتاحت فرصة لمنشئ الرسالة أن يتوسع في عرض الأدلة ويبرز قدرته على تمثل المضامين وجعلها مسايرة للطرح الذي تبناه.
- أما البراهين المدعمة لأفضلية العجم فنمثل لها بمضامين التصديقات التالية:
ما ضـرهـم ان شهـدوا  مجـادا
ألا يكـــون لونــهم ســـوادا
واستبق هذا الشاهد بقوله عن العجم: "حماة السروح، نماة الصروح، صقورة، غلبت عليهم شقورة، وصقورة الخرسان لكنهم خطبة بالخرصان"[12]. والمعنى أن لونهم أشقر، وفيهم صقورة الخرسان: أي أنهم من الصقالبة من حرس القصر، وكانوا يلقبون بالخرس. لكن هذا الوصف لا يصمد عندما يضطلعون بالمهام الحربية، وفصاحتهم إذ ذاك تكون بالخرصان أي بالرماح. ثم ذيل بعد ذلك بقول الشاعر:
نمتهم ذوو الاحساب والمجد  والعلا
من الصهب لا راعو غضـا  وأفـان
وفيه حديث عن المجد والاحساب لدى الأعاجم الذين لا يمتهنون الرعي في الفيافي والقفار. والبيت الشعري قائم على التضاد بين قوم يطمحون للمعالي وآخرين لا هم لهم إلا الرعي. وهذه الطريقة أصيلة في الحجاج، حيث تكون الفروق البلاغية بين المفهوم والمنطوق، ويحوز الكلام دلالتين: إحداهما مباشرة: ينهض بها الملفوظ من القول، وهي غير مقصودة في هذا السياق.
وثانيهما تستفاد من السياق الذي يرد فيه القول، وهي المقصودة في الرسالة، فوجب التمييز بين المقول والمعنى المبلغ أي بين المصرح به والمضمر. فالشاهد عموما يختص بوصفين:
أ- وصف المثول: أي انه يدل على أمر ماثل يتوسل به إلى غيره ويظهر ما كان منه خفيا.
ب- وصف المثال: والمراد به ذكر الشاهد لبيان فساد دليل الخصم[13].
ولاشك أن شواهد ابن غرسية تضمر أكثر مما تظهر. وهو يعلم علم اليقين أن المعاني المضمرة في الأدلة تلزم بوجه من الوجوه عما هو مصرح به. وللإضمار أسباب حجاجية وبنائية وبلاغية متنوعة منها:
-         الاحتراز من التطويل والحشو.
-         الإيجاز.
-         العلم بالمضمر.

-         القصد إلى التدليس بتجنب التصريح بالمقدمات[14].
ومعلوم ان الذي يحدد حقيقة الكلام هو العلاقة التخاطبية وليست العلاقة اللفظية[15]. وكانت هذه السيمة بارزة في شواهد الرسالة. فهي لا تنحصر في نقل المضمون من المخاطِب إلى المخاطَب، ولكن تقوم على الفهم والافهام.
وتنسحب هذه الخاصية على جميع شواهده المدعمة لأفضلية العجم، وهي على التوالي:
-جمال ذي الأرض كانوا في الحياة وهم
-
مستسلميـن إلى الحتـوف كأنمـا
-من الآلي غير زجر الخيل ما عرفوا
-أولئك قـوم إن بنوا أحسنـوا البنـا
بعد الممات جمـال الكتب والسيــر
بيـن الحتـف وبينــهم أرحــام
إذا تعرف العرب زجر الشاء والعكر

وإن  حاربوا جدوا وإن عقدوا شـدوا
ليختم هذا الشق من الشواهد بصدر بيت لأمية بن أبي الصلت:
                 هذي المفاخر لا قعبان من لبـن
ويتضح من هذه الشواهد أنها عربية أصيلة. انتقاها من قصائد مختلفة وغصبها من سياقاتها الأصلية كي يحملها معان أخرى تخدم المسار الحجاجي لرسالته، وتنزع عن الأبيات الشعرية دلالتها مرتين، ذلك أن الألفاظ تحمل دلالات وضعية لا تتعدى ما هو وارد في القواميس، ودلالة سياقية أو مقامية وسمها الجرجاني ب"معنى المعنى"، إلا أنها داخل الرسالة حملت دلالة ثالثة منحتها إياها المقاصد الحجاجية والسياق الاستدلالي الذي وردت فيه من جديد.
- وأما البراهين الجاهزة المثبتة لذمامة العرب، فاحتلت نسبة تكاد تكون مساوية لشيوع سابقتها. إذ بعد أن انتهى ابن غرسية من تشريف العجم، انتقل إلى ذم العرب، وأفصح كما في بداية الرسالة عن مقصده قبل أن يستدل عليه. فجاءت بداية هذا المحور ملخصة لما تفرق في الشواهد قائلا: "مهلا بين الإماء عن الغمز والإيماء، فنحن عرق غرق في الأنساب الصحيحة والاحساب العميمة، فمن يهولنا أو يروعنا؟ قد رسخت في المجد أصولنا وفروعنا، ومن يطولنا وكل الورى قد شمله فضلنا وطولنا؟"[16].
وهذه المقدمات تمهيد لطبيعة الشواهد والتصديقات المخصصة للتنقيص من شأن العرب، والتي نستعرضها حسب ورودها في الرسالة:
-أمــكم لأمنــا كـانت أمـــة
-يا ابن الاعـاريب ما علينا بـاس
-ولـم أشتـم لـكم عرضـا ولـكن
إن تنكــروا ذلك تلـفوا ظلمــه
لم أحـك إلا مـا حكــاه النــاس
حـدوت بحـيث يستـمع الحــداء
ولم يدع الشواهد تجني عليه، بل عدها رغم مرارتها دواء نافعا يراد من تجرعه الشفاء.
قال متمثلا:
فـلا تتبشــع ممــض العتــاب
فـان الـدواء  حمــيد الفعـــال
يلقـــاك يومــا بلقيـــاه لاق
وان كـان مـرًّا كريـه  المــذاق
ثم استل بعد ذلك شخص الرسولr من تهجمه، مستحضرا أبياتا شعرية للمعري ختم بها رسالته:
قد استحييـت منـك فلا تكلـــني
وقد انفــذت مــا حقـي عليــه
فان يـك ما بعـتـث بـه  قليــلا
الـى شـيء سـوى عـذر جميـل
قبيـح الهجـو او شتـم الـرسـول
فلـي  حـال اقــل مـن القليــل
ونخلص من هذه التصديقات الجاهزة إلى جملة من الخلاصات: أهمها أن ابن غرسية اعتمد الشعر لتصريف المعاني وإقامة الدليل على دعواه، والتي مفادها أفضلية العجم على العرب. وقد كان واعيا بأهمية الشعر في الثقافة العربية، والمكانة التي تبوأها في علاقته بكتاب الله وسنة رسوله، الأمر الذي اكسبه "حجية قوية وفعالة في تحقيق الترجيح وقطع الشغب وإيقاع التصديق"[17].
وكان ابن غرسية واعيا بهذه الخصائص. فاحتفل بالشعر لعلمه بالقوة الحجاجية التي يشيعها في نص الرسالة عن طريق الانتقال بالكلام من مجرد رأي شخصي إلى اعتقاد مشترك، تسنده خلفيات ثقافية ومعرفية ووجدانية، يمثلها البيت الشعري باعتباره ناطقا باسم الجماعة، وقادرا على مخاطبة الفهوم المختلفة، والخلوص إلى المعاني المتعددة حسب السياق الذي يرد فيه، ووفقا للغاية من توظيفه.
ولعل هذه الخاصية هي ما يفسر غياب النص الديني المقدس من ساحة الرسالة، فلا وجود لآي من القرآن الكريم، ولا لحديث نبوي شريف. لأنها نصوص لا تقبل الاجتزاء ولا يمكن قراءتها إلا في سياقها المقدس بعيدا عن الأهواء والتدليس.
وكان نصيب الأمثال قليلا، فلم نعثر إلا على مثال واحد إذ قال في قومه: "لا يقعقع لهم بالشنان"[18]. والشنان: القراب الصغيرة يقعقع بها للبعير ليفزع. والمعنى أن العجم لا تفزعهم قعقعة الشنان. فعد بذلك قومه اكبر من أن يصغوا إلى تهديد الخصوم كناية عن شجاعتهم ورباطة جأشهم.
2- البراهين غير الجاهزة (الصناعية):
وهي كما أشرنا إلى ذلك في مقدمة العرض ثلاثة أقسام:
أ‌-       قسم له علاقة بالمتكلم.
ب‌-   قسم له صلة بالمتلقي.
ت‌-   وثالث يرتبط باللغة المعبر بها عن الغرض.
* أما القسم الأول فحديث عن أخلاق المتكلم وهيأته وسمعته، ولأننا أمام نص مكتوب، فانه لا يمكننا استخلاص الكثير من الفوائد الحجاجية المتصلة بهذا الجانب، بسبب غياب عنصر المعاينة. لكن هذا لا يمنع من الوقوف على كثير من المؤشرات الدالة على طبيعة منشئ الرسالة والتي تساعد على استخلاص حكم عن طبيعة أخلاقه ومدى صدقيته فيما يدعي.
وارجع في هذا المقام إلى جملة من الخلاصات الهامة التي بثها الدكتور طه عبد الرحمن في مؤلفاته عن آداب المناظرة، وأخلاق المناظر. ومجملها أن العلاقة التخاطبية تقوم على أساس "التبليغ" الذي يزدوج فيه الإظهار والإضمار[19].
وخاصية التبليغ هذه، تقتضي أن يكون المبلغ مهذبا ومؤدبا في الآن نفسه، حتى يتحقق الانتفـاع بالقول[20]. ومن ثمة كانت للمناظرة أخلاقيات، وكانت اللغة "تحمل سيمات فكر من يتكلمونها"[21]. ومن هذه الأخلاقيات:
-         أن يتجنب المناظر الإساءة إلى خصمه.
-         أن يقصد المناظر الاشتراك مع خصمه في إظهار الحق[22].
ونكتفي بهذين العنصرين الذين لم يتحقق منهما أي واحد في الرسالة موضوع الدرس. فقد كانت الإساءة للمخاطب منطلقا ومنتهى، وطمس الحقيقة غاية ومقصدا. وبالتالي فان المخاطب أحسن الاستدلال على خلقه، واخطأ الطريق إلى الحقيقة التي يعرفها ويقول بخلافها. فأنى له أن يصدق في دعواه؟ ولنا في فحاشة لسانه وجنوحه الى الشتم والقذف والنيل من الأعراض، خير دليل على ما نقول. ونختار لذلك نماذج قليلـة، ونتغاضى عن الكثيـر حتى
لا نثقل كاهل البحث، وإلا فان الرسالة كلها نموذج للافتراء:

يقول في رسالته: "ولا تهايل في التكايل، فما سسنا قط قرودا، ولا حكنا برودا، ولا لكنا عرودا، فلا تهاجر بني هاجر انتم ارقاؤنا وعبدتنا وعتقاؤنا وحفدتنا"[23].
وفي موقع آخر: "نجوم الرجوم من العجم ضراغمة الاجم بنو غاب، منتفون من كل عاب، لم تلدهم صواحب الرايات بل تبحبحت عنهم سارة الجمال والكمال ربة الإياة"[24].
ولا املك بعد هذه النماذج إلا أن أقول مع الدكتور طه عبد الرحمن إن اللغة تحمل سيمات من يتكلمونها. ونحن بدورنا نستخلص من لغة الفحش الموظفة في الرسالة مؤشرات دالة على صاحبها.
* وأما القسم الثاني من البراهين غير الجاهزة، فله صلة بنوازع المتلقي. والمتلقي المعلن في الرسالة هو ابن الخراز، أما المضمر فعموم العرب، لذا حرص صاحب الرسالة على استغلال ازدواجية الخطاب لتصريف المعاني وبلوغ المقاصد الحجاجية، مستغلا في ذلك ثقافته العربية وعلمه بقدرة الأسلوب ووسائل الإثبات الشعرية على النهوض بأعباء التأثير والإقناع.
فجاءت الرسالة من بدايتها إلى نهايتها مقارنة بين فئتين مختلفتين ومفاضلة بين العرب والعجم في الأنساب والمجد والإقدام.
وكان العرب يولون لهذه الفضائل عناية فائقة، يدعمهم في ذلك ما جبلوا عليه من كريم الخلق وعزة النفس. ولم يكونوا يفتخرون بشيء غير هذه الفضائل التي ساهم الشعر في ترويجها والحث عليها ومدح من يتصف بها. وقد أدرك ابن غرسية هذه المعادلة فكانت هدفا صريحا سعى إلى رده والاعتراض عليه بناء على جملة من الأدلة، والتي يعتبرها داحضة وهي في مجملها:
أ- أدلة ثقافية: وزادها الشعر والمثل. ومعلوم أن الشعر ديوان العرب ومنتهى علمهم في القديم.
ب- أدلة اجتماعية: اعتمد فيها طريقة انتقائية وتلفيقية، وأسسها على التلميح إلى بعض الانحرافات الخلقية التي وسمت تاريخ العرب في بعض مراحله. وهي في الجملة انحرافات لا يخلو منها أي مجتمع. ونمثل لها بوصف أمهات العرب بذوات الرايات واستثناء نساء العجم من هذه الصفة قائلا: "لم تلدهم صواحب الرايات"[25]. والمقصود بهن البغايا في الجاهلية، كن يرفعن الرايات فوق بيوتهن لتمييزها.
وتوظيفه لهذا السلوك المنحرف الشاذ في المجتمع العربي الحريص على الأنساب، سعي منه إلى الانتقال بالأدلة الشاذة من حالة الشذوذ إلى حالة الشيوع.
وانتقل بعد ذلك إلى وصف طعام العرب في مقابل طعام العجم: "طعامهم الحنيذ، وشرابهم النبيذ، لا زهيد الهبيذ في البيد ولا مكون الوكون"[26]. مفاضلا في ذلك بين الهبيذ والنبيذ الخاص بالأعاجم وحب الحنظل وبيض الضب الخاص بالعرب، قبل أن يعرج على مساكن العرب الذين سكنوا بيوت الشعر واصفا لهم "بالبداة العداة".
ج- أدلة تاريخية: حاول من خلالها الطعن في تاريخ العرب ونزع كل مزية يمكن أن يفخروا بها، وساعيا، كما هي عادته، إلى الاجتزاء واختيار النقائص وتضخيمها. ومن ذلك قوله "أصغر بشأنكم، إذ بزق خمر باع الكعبة أبو غبشانك وإذا أبو رغالكم قاد فيل الحبشة إلى حرم الله لاستيصالكم"[27] إشارة منه إلى أبي غبشان الذي باع مفاتيح الكعبة بزق خمر وأبي رغال الذي عمل دليلا لأبرهة عندما أراد غزو مكة.
وفي مقابل هذا كان للعجم "عظيم الشأن"[28]، لا بل هم "مجد نجد: بهم
لا رعاة شويهات ولا بهم، شغلوا بالماذي والمران عن رعي البعران، وبجلب العز عن حلب المعز، جبابرة قياصرة ذوو المغافر والدروع"[29].
وكان يروم من هذه الأدلة تحقيق مجموعة من المكاسب الحجاجية منها:
-         إثبات دعواه المتمثلة في أفضلية العجم عن العرب.
-         ترسيخ نواقص العرب في ذهن المتلقي.
- إثارة نوازع المتلقي وتحريك شعوره بالسخط على العرب. ولا غرو، فقد أشار أرسطو في هذا الصدد إلى ضرورة إثارة الانفعال واستفزاز العواطف. ولا يكون ذلك إلا باستمالة العواطف بالكلام "إلى شيء من الآلام المعترية"[30]، لأن إعطاء الأحكام في حالة الفرح والحزن والمحبة والبغضاء ليس سواء. وعملية الإقناع هنا ليست عقلية خالصة. إذ لا ينبغي أن يكون المرء صادقا فيما يقول فحسب، بل يجب أن يعرف كيف يقوله، وأن يخاطب المتلقي بما لا يحتمل الشك لديه من ثقافة ودين وتقاليد ومسلمات.
* حجاجية اللغة: ويتصل هذا الشق من التصديقات باللغة الموظفة في الخطاب، وهي هنا لغة منثورة متوازنة ومتوازية أقرب إلى الشعر منها إلى النثر. وهذه الخاصية تمثل أهم ما يميز رسالة ابن غرسية بالإضافة إلى اعتمادها على الجمع بين أعناق المتنافرات، والتنسيق بين المتضادات، والمزاوجة بين الشعر والنثر، سعيا منه إلى المراوحة بين أساليب الإمتاع وأساليب الإقناع، القادرة على توجيه سلوك المتلقي، ولما يهبها "الإمتاع من قوة في استحضار الأشياء، ونفوذ في إشهادها للمخاطب كأنه يراها رأي العين"[31].
وقد دعمت اللغة الموظفة هذا المنحى انطلاقا من التعارض بين المضامين بحسب ورود الأقوال في مقامات مختلفة.
وإذا سلمنا أن الرسالة تختزن كثيرا من المقاصد، وان هدفها هو التبليغ والإفهام، فحري بنا أن ننظر إلى الأساليب نظرة يستقيم معها هذا الطرح.
فالأسلوب لدى ابن غرسية رغم جماله، لا يقف عند حدود الامتاع واللعب اللغوي وتوظيف المحسنات البلاغية، بل يتعدى ذلك إلى استغلال تقنيات التعبير في الإقناع، وجعلها مطية لتناسل الخطاب وتعميق الإفهام وتنويع مصادر البليغ ودعم الإقبال ودفع الرتابة والملل.
ولا شك أن هذه الخصائص تشكل دعامة أساسية للنص الحجاجي، إذ كما يقول أرسطو: "ليس يكفي أن يكون الذي ينبغي أن يقال عتيدا، بل يحتاج اضطرارا إلى أن يقال ذلك على ما ينبغي"[32].
ولهذا نجد أرسطو يفضل نوعا خاصا من الأساليب، ذلك الذي يكون مقسما ومتقابل الأجزاء بحيث تدرك العين كل جزء منه "فالذي هو بهذا الحال قد يكون لذيذا يسير التعليم"[33].
ونكاد نجزم أن ابن غرسية انشأ رسالته على هذا المقاس فقد وفر لها من المحسنات البديعية، والجمل القصيرة المتوازية، ومن الانزياحات، ما جعلها تأخذ مكانتها ضمن الذخائر في محاسن أهل الجزيرة.
ولم تكن جمالية الأسلوب لتغيب المقاصد الحجاجية والتبليغية، فالمعاني حاضرة في حلة بديعة، اقترن فيها الخيال الواسع بقوة التعبير، وتضافرت الجناسات والطباقات والتقابلات في دعم الصبغة الحجاجية للقول، وكان منشئ الرسالة يعي تمام الوعي قدرة الأسلوب على التأثير وتغيير الاعتقادات، نتيجة لما يفرضه من سلطة على عواطف المتلقين، وسلطته في الدفع بالمرء إلى جهة الانقباض أو الانبساط بتعبير القرطاجني[34].
وحسبنا بعد الذي ذكر أن نقدم أمثلة للاستشهاد، إذ لا يتسع المقام للاستقصاء. وإلا فإن الرسالة في عمومها تصلح أن تكون نموذجا للمراوحة بين الإمتاع والإقناع بما توافر لها من أساليب بلاغية تقدم المعنى في صور مختلفة، مع حرصها الشديد على الإيجاز وتجنب الحشو ودفع الملل والرتابة، حتى ان ابن بسام حكم عليها بقوله: "وان كانت طويلة فهي غير مملولة"[35].
يقول ابن غرسية في قومه: "بصر صبر: تزدان بهم المحافل والجحافل، كواكب المواكب، قيول على خيول، كأنهم فيول، نجوم الرجوم من العجم ضراغمة الاجم، بنو غاب، منتفون من كل عاب، لم تلدهم صواحب الرايات، بل تبحبحت عنهم سارة الجمال والكمال رباة الاياة"[36].
ولو فحصنا هذه الفقرة، لوجدناها غنية بالنكات البلاغية من جناس وتشبيه واستعارة وحذف وذكر وتصريح وإضمار ونفي واثبات، وقلما تتوافر هذه الخصائص في حيز مكاني ضيق.
3- القياس المضمر:
ويندرج القياس المضمر ضمن البراهين الصناعية المنطقية. و"أيا كانت الصيغة التعبيرية التي يرد بها القياس، إن مقارنة أو تشبيها أو مماثلة أو غيرها، فانه يقوم في الربط بين شيئين على أساس جملة من الخصائص المشتركة بينهما"[37].
وقد استغل ابن غرسية هذه الخاصية للاستفادة من القياس، مستغلا في ذلك مسلمة التباس الخطاب الطبيعي، وقابليته للفهم المتعدد بتعدد التأويلات. ومعلوم ان الالتباس لا يعد تنقيصا من اللغة الطبيعية "بل هو مزية فيها، يكسبها الطواعية الكافية لجعلها تستجيب لأغراض التبليغ التي لا تحصى"[38].
إلا أن طواعية اللغة وجنوحها نحو المجاز في التبليغ برغم ما يتيحه ذلك من تنويع مصادر الإثبات لا يلغي توافر مجموعة من الشروط في الشاهد، أهمها:
-         أن يكون الأفضل من غيره من الشواهد.
-         أن يحوز الصفة على وجه الكمال الذي لا يحصل لغيره.
-         أن تشبه الأشباه الشاهد أكثر من غيرها.
-         أن يكون للشاهد أشباه مشتركة[39].
وقد شكل الاستدلال القياسي لدى ابن غرسية مصدرا خصبا للخطاب التبليغي الذي تبناه. واتخذ من التشبيهات والاستعارات ومحاورة النصوص القديمة والمثل عدة لبلوغ الغرض المقصود.
ومن مضمراته: قوله: "لم تلدهم صواحب الرايات"[40] فهذا القول يشكل نواة قياس مضمر. مقدمته الكبرى: من لم تلده صواحب الرايات أفضل ممن ولدتهم.
ومقدمته الصغرى: العرب ولدتهم صواحب الرايات.
ونتيجته: العجم أفضل من العرب لأنهم لم تلدهم صواحب الرايات.
ومن مضمراته أيضا قوله: "شدهوا برنات السيوف عن ربات الشنوف       وبركوب السروج عن الكوب والفروج"[41].
فالمقدمة الكبرى هي: من شده برنات السيوف وركوب السروج أفضل ممن شده بربات الشنوف وركوب الفروج.
ومقدمته الصغرى: -العجم شدهوا برنات السيوف وركوب السروج.
                   -العرب شدهوا بربات الشنوف وركوب الفروج.
ونتيجته: العجم أفضل من العرب.
ونقف عند هذين المثالين، والأمثلة متعددة، وهي ترجع جميعها إلى
ما وسمه رولان بارث بالقول المأثور الذي يشكل "شذرة من قياس مضمر يكون سائره ضمينا"[42]. وهو ما وقفنا عليه في الأمثلة السالفة، إذ حذف معظمها واحتفظ منها بشذرات دالة على المحذوف، وقمينة بتحريك انفعال المتلقي، والدفع به إلى الاقتناع بالحكم الناتج عن القياس.
وينهض التشبيه والاستعارة والمثل بالأدوار نفسها في رسالة ابن غرسية. ومن استعاراته ما وقفنا عليه في قوله: "إذا قامت الحرب على ساق، وأخذت في اتساق، وقرعت الظنابيب، وأشرعت الأنابيب، وقلصت الشفاه، وفغر الهذان فاه وولى قفاه ألفيتهم ذمرة الناس عند احمرار البأس"[43].
فاستعار للحرب ساقا واتساقا، وللبأس احمرارا، وخلص من هذا الموقف المهول إلى أن الإقدام في الحرب من شأن العجم والتولي يوم الزحف من شيم العرب. وهي نتيجة سخر لها كل إمكانيات القياس الموظفة في الرسالة.
II- الأسلوب:
ويأتي في المرتبة الثانية بعد البراهين عند أرسطو، لأن الأسلوب هو الذي يتكفل بنقل الأفكار التي سبق وأن عثر عليها في الإيجاد إلى الصياغة اللغوية. ولا يكفي أن تكون الأدلة مقنعة ما لم تقدم بأسلوب مقنع يحوز مجموعة من العناصر التعبيرية والفنية والجمالية[44].
والأسلوب لدى أرسطو هو التعبير ووسائل الصياغة، وهو وثيق الصلة في كل معانيه بالإقناع، إما بالمحاكاة، وإما بالتعبير المباشر مما لا محاكاة فيه[45]. وفضيلة المقال لديه تكون بالتغيير عموما.
والتغيير مظهر من مظاهر الإغراب والتعجيب في اللغة، يزيد الكلام هيبة، ويحدث لذة يعتري الناس فيها مثل ما يعتري أهل المدينة من الغرباء[46]، لكن في حدود الاستمالة بعيدا عن التعمية والتضليل، لان التضليل لا يستعمل مع من يراد إقناعه.
كما أن عناية أرسطو بالمجاز جعلته يفرق بين طبيعة الأسلوب الذي يمكنه أن يُغرق في التغيير، والأسلوب الذي يخشى عليه من المجاز "لأن موارد النثر أقل من موارد الشعر"[47].
ونفهم من هذا القول: ان أسلوب التغيير في الخطابة غيره في الشعر، فالخطيب ملزم باستخدام التغييرات بالقدر الذي يوضح المعنى، والشاعر يستعملها بالقدر الذي يصور المعنى.
والأسلوب لدى أرسطو نوعان:
أ- الأسلوب المفصَّل: ويقصد به المقال، ولا ينقضي من ذاته إلا بانقضاء الأمر الذي يتكلم فيه[48].
ب- الأسلوب المقطع: ويكون دوريا، بدؤه وآخره شيء واحد[49] أي: له عددا يوزن به، وله إيقاع يسهل استيعابه، وقدرة على إثارة المتلقي متى كان مطابقا لمقتضى الحال.
وقد افرد القرطاجني قسما من "المنهاج" لدراسة الأسلوب. واعتبر نسبته إلى المعاني بنسبة النظم إلى الألفاظ "فالأسلوب هيئة تحصل عن التأليفات المعنوية، والنظم هيئة تحصل عن التأليفات اللفظية"[50]. وبهذا الفهم تكون علاقة الأسلوب بالمعنى علاقة عضوية. ولذلك اشترط فيه أن يكون مخيلا للحالة التي يريد مؤلفه تخيلها من رقة أو غلظة، لأن من شأن لطف الأسلوب وورقته أن يخيل للمتلقي أن قائله عاشق، كما أن الأسلوب اللطيف المأخذ الرقيق الحواشي يخيل رقة نفس القائل50.
ويعد أسلوب الاستفهام من أهم الأساليب الحجاجية في الرسالة، فقد أتاح لابن غرسية فرصا بلاغية وحجاجية دعمت المقصد التبليغي، وانتقلت بالمقول من مجرد الاستفهام عن شيء لم يكن معلوما قبل السؤال، إلى معان سياقية تخدم الدعوى المتمثلة في أفضلية العجم على العرب.
وكادت كل فقرات الرسالة تحوز سؤالا يكون منطلقا للإنكار أو التقرير، ومطية لاستباق الإجابة ونسج الافتراضات ودحضها بالأدلة العقلية أو النقلية.
ومن نماذج الاستفهام في الرسالة قوله: "فما هذا الإعمال للكور وترك الوكور؟"[51].
-         "من أحوجك إلى ركوب المهمه، وثقف، وودك الاتقف؟"[52]
-         "اما علمتم ان المملكة النوشروانية والدولة الازدشيرية بقروا أجوافكم وخلعوا أكتافكم؟"[53].
-         "فمن يهولنا أو يروعنا؟"53.
-         "ومن يطولنا وكل الورى قد شمله فضلنا وطولنا؟"53.
ولسنا في هذا المقام بصدد استخراج المعاني البلاغية للاستفهام، بالقدر الذي نسعى إلى المقاربة الحجاجية لأساليبه.
ويتضح من هذه النماذج أن الأسئلة كلها تصب في خانة واحدة لا يراد لها إلا أن تكون منطلقات لنتيجة واحدة. فجاء الاستفهام في المثال الأول دالا على الإنكار، وفي الثاني على الإثبات وفي المثالين المواليين دالا على النفي.
والإنكار على ابن الخراز الذي اختار ركوب المهمه وليس له طاقة عليه. والثاني إثبات لشيء حاصل يعتبره منشئ الرسالة دليلا إضافيا على صدق دعواه، مستثمرا في ذلك حدثا تاريخيا يعلمه المتلقي، وينزله المخاطب منزلة المتناسي، ساعيا إلى تذكيره دون أن ينتظر منه جوابا.
أما بقية الشواهد ففيها نفي لوجود ند للأعاجم، واختار ابن غرسية بدل التصريح بالنفي أن يضع الأمر موضع تساؤل يتخطى حدود الاستفهام عن شيء إلى نفيه. والمراد من المثالين: لا أحد يستطيع ترويعنا، ولا وجود لمخلوق يطولنا وقد عم الورى فضلنا وطولنا.
ولم يكن أسلوب النفي محصورا في دلالة الاستفهام عليه، بل كان قوة حجاجية وآلية للنقض وأداة لانجاز "فعل التعويض الذي يتمثل في إبطال معلومة الخصم وإمداده بمعلومة أخرى يعتبرها المناظر صحيحة"[54]. وتتكامل وظيفتا الإبطال والتعويض في دعم الحجج المؤيدة، وتفنيد الحجج المعترضة.
ومعلوم ان التعارض كما حدده الدكتور طه عبد الرحمن هو "أن يتقلب المتحاور بين العرض والاعتراض"[55]. ويقوم على قواعد تخاطبية منها:
-         لا تنص على شيء وأنت لا تقصد تخصيصه.
-         لتسلك طرق التقابل في تشقيق الكلام.
-         استحضر في أقوالك إمكان الاعتراض عليها55.
وينتج عن هذه القواعد أن منشئ الرسالة أو الخطاب عموما "ينشق إلى ذات عارضة تثبت منطوق الكلام، وذات معترضة تصل المنطوق بالمفهوم المخالف"55. وهذه الخاصية يدعمها الانتقال بدلالة المنطوق إلى الدلالة الاقتضائية المفهومية.
وينطبق هذا السلوك الأسلوبي على الرسالة موضوع الدرس. فقد كان ابن غرسية مستحضرا لاعتراضات خصومه. فلجأ إلى الحيل الأسلوبية الحجاجية التي تعرض وتستبق الاعتراض، متبعا في ذلك تقنيات النفي والإثبات.
ومن نماذجها لديه:
 قال فـي قومه: "مجد لا رعاة شويهات ولا بهم"[56] فهو ينفي عن العجم
هذه الخصال. وفي المقابل يثبتها للعرب، مع حرص على تصغير "شويهات" مضيفا بذلك شحنة أخرى للقول.
ومعلوم ان نفي الشيء عن الطرف الأول هو إثبات له في حق الطرف الثاني لكن إمكانية اعتراض الخصم عن الصفة دفع بابن غرسية إلى استباق الاعتراض باللجوء إلى التفصيل بعد الإجمال، والشرح بعد الإبهام فأضاف في الفقرة نفسها معتزا بقومه وشارحا لقوله الفارط: "شغلوا بالماذي والمران عن رعي البعران، وبجلب العز عن حلب المعز"56.
ومن النفي والإثبات لديه أيضا قوله: "ولا تهايل في التكايل فما سسنا قط قرودا، ولا حكنا برودا، ولا لكنا عرودا"[57] والمعنى المستفاد من النفي هنا، بالإضافة إلى دلالة المنطوق، هو إثبات هذه الصفات للخصوم. لكن الشرح الموالي للنفي جاء مفارقا لما ينتظره المتلقي من استباق الاعتراض بشرح المضامين إلى الخوض في مواضيع أخرى، لا تلغي النفي والإثبات المتحصلين، ولكنها تشوش على المعترض وتضعه في مفترق الطرق بحيث يحتار بين الاعتراض على المنفي أو توجيه عنايته إلى المثبت الجديد الذي مفاده "انتم ارقاؤنا وعبدتنا وعتقاؤنا وحفدتنا، مننا عليكم بالعتق وأخرجناكم من ربق الرق وألحقناكم بالأحرار"57. وهو تنويع أسلوبي ينتقل من العرض والاعتراض الذي بنيت عليه الرسالة إلى استغلال المقال والمقام لتكثيف المعنى الواحد، وتقديمه في صور متعددة يراد منها بعد التشويش تشتيت ذهن المعترض المفترض حتى لا يستقيم له الرد على حال واحد.
وقد سبق واشرنا عند دراستنا لحجاجية اللغة أن كلا من التشبيه والاستعارة أديا الوظيفة نفسها. إذ كانا أداة مسخرة لخدمة الإضمار مع حضور بارز لحيل الالتباس الذي يؤول إلى طواعية اللغة، وقابليتها للفهم المتعدد واغتنام ذلك لإثبات أفضلية العجم على العرب في الرسالة.
ولا يمكن بعد هذا، أن ندرس الرسالة دون أن نعرض للروابط، لما لها من فعالية حجاجية. ومعلوم أن الروابط الحجاجية "صريفة تصل بين  ملفوظين
أو أكثر، جرى سوقهما في إطار الإستراتيجية الحجاجية نفسها"[58].
ويمكن تقسيم الروابط الحجاجية في الرسالة إلى قسمين:
أ‌-       روابط مدرجة للحجج.
ب‌-   روابط مدرجة للنتائج.
أما الروابط المدرجة للحجج فمنها ما يدرج حججا ضعيفة، لا تتفاضل في القوة بل تقع في ميزان واحد[59]. ومن نماذجها الربط بالواو كما في قول ابن غرسية: "...على من اضطرك إلى الإيغال، وباعك بيع المسامح بك لا المغال، وبعثك على مخالفة الحصان، ، ومخالفة الحصان، وعوضك من قطع الأندية بجوب الأودية، ومن المآلف بخوض المتالف..."[60].
والربط بالنفي في قوله: "بسل: لا حراس مسل ولا غراس فسل، ملك لقاح، ليس منه في ورد ولا صدر شراب در اللقاح"[61].
وهذان الصنفان من الروابط أكثر شيوعا في الرسالة. فإن أغلب الحجج الواردة فيها تتساوى فيما بينها ويحكمها ميزان واحد.
ولم نقف على حجج بعضها أقوى من بعض كي نمثل للروابط المدرجة للحجج القوية.
أما الروابط المدرجة للنتائج، فهي التي تربط بين الحجة ونتيجتها، ومما جاء في الرسالة قوله: "ليسوا بعرب، ذوي اينق جرب، بل هم القياصرة الاكاسرة"[62].
ومنها أيضا قوله: "غلبت عليهم شقورة، وصقورة الخرسان، لكنهم خطبة بالخرصان"62.
فالرابط "بل" في النموذج الأول، و"لكن" في النموذج الثاني: كانت الغاية منهما تمكين العلاقة بين الحجة ونتيجتها، وجعل المتلقي يعتقد بصحة العلاقة بينهما، والانتقال به من التشكيك في الإمكان إلى ضرورة الاعتقاد بالتلازم.
III- الترتيب:
والمقصود بالترتيب في هذه المقاربة الحجاجية هو ترتيب الحجج وترتيب أجزاء القول.
يقول رولان بارث "الترتيب هو توزيع المواد داخل كل جزء من أجزاء الخطاب"[63].
وكلا الترتيبين ينهض بأدوار جليلة في التبليغ. إذ ان ترتيب البراهين يكسبها طاقة حجاجية إضافية، إذا ما وضعت البراهين في الموضع المناسب. ولا يكفي أن تصاغ الحجة صياغة جيدة، بل "تتدخل كل الأمور المتعلقة بالترتيب"[64]  وكل خلل في الترتيب يسلب الحجة قوتها مهما كانت بالغة.
ومن ثمة كانت عناية الباحثين بأجزاء القول. فعدوا المقدمة لحظة من لحظات "الاستمالة" أو "مشروع إغراء الجمهور"[65]. أو لحظة "للاستهواء"[66]. وكلها مصطلحات تقيم صلة بين المقال والمقام، وتستحضر المتلقي من خلال التركيز على التأثير العاطفي ومقتضيات الاستدراج.
والاستهلال فرصة لعرض الخطوط الكبرى والمسلمات التي تجعل المخاطب على بينة من مسار الحجاج.
وعد السرد الحجاجي وفاء لتثبيت الدعوى ودعم الإقناع وإزالة الغشاوة عن الطرح الإشكالي موضوع القول. لذلك كان السرد الحجاجي مقرونا بالحجاج والبرهنة، ووسائل الإثبات، على أساس ان البراهين والاستدلالات تأتي بعد عرض القضية.
ومعلوم أن هذا الجزء(أي السرد) هو "مفخرة الخطباء" لذلك كان شأنه متروكا لهم. فكانت مراتبهم متفاوتة بتفاوت القدرة على الترتيب والاستدلال.
أما الجزء الأخير فالخاتمة. وهي عادة ما تضم ملخصا لما سبق انجازه. وهي بعد مقام مناسب لإثارة الانفعالات وترسيخ الاعتقاد.
ولأن هذه الأجزاء وضعت كي تناسب الخطابة، فإن الباحثين في بلاغة الحجاج وجهوا اهتمامهم في معالجة الخطاب الاقناعي إلى ترتيب الحجج وفقا لما سمى "بالسلم الحجاجي" والذي عرفه طه عبد الرحمن بقوله "السلم الحجاجي عبارة عن مجموعة غير فارغة من الأقوال المزودة بعلاقة ترتيبية وموفية بالشرطين التاليين:
أ- كل قول يقع في مرتبة ما من السلم يلزم عنه ما يقع تحته، بحيث تلزم عن القول الموجود في الأعلى جميع الأقوال التي دونه.
ب- كل قول كان في السلم دليلا على مدلول معين، كان ما يعلوه مرتبة دليلا أقوى عليه[67].
ولذلك ارتأينا أن العناية بترتيب الحجج داخل الرسالة موضوع الدرس أفيد من البحث في الأقسام الجاهزة السالفة الذكر، خاصة ان الترتيبين متداخلان في رسالة ابن غرسية. إذ أن كل فقرة تكاد تستقل بحججها في خدمة الدعوى الموحدة القائمة على تفضيل العجم على العرب.
ونميز في الرسالة بين نوعين من الحجج:
أ- الحجج العقلية: وتشمل كل البراهين التي أقامها ابن غرسية بالحيلة من نفسه. وتكاد تكون الفقرات المنثورة دليلا عليها. وقد سبق واشرنا أنها مرتبة على النحو الآتي:
    * أدلة ثقافية.
    * أدلة اجتماعية.
    * أدلة تاريخية.
وصاغها بطريقة تعتمد المحاورة مع الأحداث والوقائع الماضية. محاولا إيجاد صلة بين أمور حاصلة في الزمن الغابر، وأخرى يقرنها بها ويود إثباتها.
ب- الحجج النقلية: وغلب عليها توظيف الشاهد الشعري حتى انه كان الشاهد المهيمن المثبت لدعواه في جميع مراحل الرسالة.
وكان ترتيب الشواهد الشعرية حسب اتساق مضامينها مع مضامين الأفكار التي يسعى إلى إثباتها أو نفيها. ومن ثمة كانت إضافتها بحسب دعمها للمضامين المبلغة، وترتيبها بحسب خدمتها لهذه الوظيفة داخل السياق الذي ترد فيه.
وقد غابت النصوص المقدسة من ساحة الرسالة، برغم علم ابن غرسية بوقعها في نفوس المسلمين عامة والعرب بوجه خاص.
 ونخلص أن الرسالة توزعتها مضامين متعددة وافتراضات وردود، جعلت ترتيب الحجج ينتقل من العام إلى الخاص. أي ان البراهين وضعت لخدمة الدعوى القائلة بأفضلية العجم على العرب. وحصرت نفسها في خدمة تفاصيل هذه الدعوى من خلال اشتغالها داخل الفقرات ذات المضامين المتنوعة والتي لا تخرج عن نطاق الدعوى الشامل.
وقد سبق وأدرجنا نماذج للبراهين عند دراستنا لها في القسم الأول من المداخلة.
وختاما إن الترتيب المعتمد في الرسالة يتعالى عن ترتيب المفردات إلى ترتيب المركبات. أي ان مراتب الكلام موجهة توجيها قصديا يجعل حوارية القول مشتركة بين ذوات متعددة. ومرد هذا الاشتراك إلى كون المتكلم "واحد بشخصه متعدد بأدواره، والمستمع نظيره في ذلك"[68].
وقد عمل ابن غرسية بهذا المبدإ باختياره أدلة متنوعة لمدلول واحد، فالمدلول الذي بنى عليه رسالته هو "ذم العرب" والأدلة التي قدمها متنوعة، منتقلا في جميع مراحل الرسالة من الإجمال إلى التفصيل، ومن اختلاق الإشكال إلى تولي التبيين.




[1]- وردت الرسالة في كتاب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة، لابن بسام الشنتريني، القسمIII المجلدII، تحقيق احسان عباس، دار صادر، بيروت1975، ص: 704-714.
[2]- الذخيرة: 3-2/704.
[3]- الذخيرة: 3-ج2/704.
[4]- نفسه، ق3 ج2/705.
[5]- أرسطو، الخطابة، الترجمة العربية القديمة، تحقيق عبد الرحمن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، 1959، ص: 9.
[6]- الريفي هشام، الحجاج عند أرسطو (ضمن أهم نظريات الحجاج في التقاليد الغربية من أرسطو إلى اليوم) إشراف حمادي صمود، كلية الآداب، منوبة(د- ت) ص: 180.
[7]- الخطابة، ص: 10.
[8]- نفسه.
[9]- نفسه.
[10]- حمادي صمود، مقدمة في الخلفية النظرية للمصطلح (ضمن اهم نظريات الحجاج) ص: 13.
[11]- نفسه، ص: 13.
[12]- الذخيرة، ق3، ج2/706.
[13]- طه عبد الرحمن، اللسان والميزان، المركز الثقافي العربي، طI، 1998، ص: 135.
[14]- نفسه، ص : 150.
[15]- طه عبد الرحمن، اللسان والميزان، المركز الثقافي العربي، طI، 1998، ص: 215.
[16]- الذخيرة، 3-2/711.

[17]- عبد اللطيف عادل، خطاب المناظرة في التراث العربي الإسلامي، أطروحة مرقونة بكلية الآداب، مراكش، ص: 207.
[18]- الذخيرة: 3-2/710.
[19]- اللسان والميزان، ص: 216.
[20]- نفسه، ص: 223.
[21]- طه عبد الرحمن، في اصول الحوار وتجديد علم الكلام، طII، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء،2000، ص: 69.
[22]- نفسه، ص: 74-75.

[23]- الذخيرة، 3-2/707.
[24]- نفسه، 3-2/ 708.
[25]- الذخيرة، ق3-ج2/708.
[26]- نفسه، ص: 710.
[27]- نفسه، ص: 712.
[28]- الذخيرة ، ص: 710.
[29]- نفسه، ص: 706.
[30]- الخطابة، ص : 10.
[31]- في اصول الحوار وتجديد علم الكلام، ص: 38.
[32]- الخطابة، ص : 180.
[33]- نفسه، ص: 208.
[34]- منهاج البلغاء وسراج الادباء، ص: 89.
[35]- الذخيرة، ق3-ج2/705.
[36]- نفسه ، ق3-ج2/708.
[37]- في اصول الحوار، ص: 98.
[38]- نفسه، ص: 99.
[39]- في اصول الحوار ، ص: 109.
[40]- الذخيرة، ق3-ج2/708.
[41]- نفسه، ص: 709.
[42]- رولان بارث، البلاغة القديمة، ترجمة وتقديم: عبد الكبير الشرقاوي، نشر الفنك للغة العربية،1984، ص: 112.
[43]- الذخيرة، ق3-ج2/707-708.
[44]- محمد الولي، من بلاغة الحجاج إلى بلاغة المحسنات،  فكر ونقد، السنة الأولى عدد8 ابريل1998، ص: 134.
[45]- غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، دار العودة، بيروت،1987، ص: 113.
[46]- الخطابة، ص: 196.
[47]- نفسه ، ص: 197.
[48]- نفسه، ص: 207.
[49]- نفسه، ص: 208.
[50]- منهاج البلغاء، ص: 364.
[51]- الذخيرة، ق3-ج2/705.
[52]- نفسه، ص: 706.
[53]- نفسه، ص: 711.
[54]- عادل عبد اللطيف، خطاب المناظرة، ص: 200.
[55]- في أصول الحوار، ص: 49.
[56]- الذخيرة، ق3-ج2/706.
[57]- نفسه، ق3-ج2/707.
[58]- الراضي رشيد، الحجاجيات اللسانية عند انسكومبر وديكرو، عالم الفكر، ع1، المجلد34، 2005، ص: 235.
[59]- العزاوي ابو بكر، اللغة والحجاج، طI، العمدة في الطبع،2006، ص:30.
[60]- الذخيرة، ق3-ج2/706.
[61]- نفسه، ص:710.
[62]- الذخيرة، ق3-ج2/706.
[63]- البلاغة القديمة، ص: 138.
[64]- محمد الولي، من بلاغة الحجاج الى بلاغة المحسنات، ص: 130.
[65]- رولان بارث، البلاغة القديمة، ص: 142.
[66]- العمري محمد، في بلاغة الخطاب الاقناعي، طII، افريقيا الشرق،2002، ص: 39.

[67]- طه عبد الرحمن، اللسان والميزان او التكوثر العقلي، طI، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، بيروت،1998، ص: 277.

[68]- عن التوجيه القصدي، يرجع إلى: اللسان والميزان، ص: 275.

Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire