الإقناع بين الشعر والخطابة
في التراث النقدي والبلاغي
د أحمد قادم
كلية اللغة العربية _مراكش
تصدير:
الشعر والخطابة
قسمان من أقسام المنطق حسب التصنيف الذي أجراه الفلاسفة المسلمون أثناء شرحهم
للموروث الأرسطي. فقد وجدوا لأرسطو كتابا في الشعر وآخر في الخطابة، فأدرجوا الشعر
في الرتبة الخامسة من المنطق. وحجتهم في ذلك انه يقوم بأدوار الخطابة في الإقناع
وله قدرة على التأثير في سلوك المتلقين وحملهم على الإذعان لمقتضيات القول.
لكن هذا المنحى الإقناعي لا يلغي المقصد
الإمتاعي والجمالي للشعر في التصور النقدي العربي عموما. وقد تنبه الدارسون إلى
ضرورة الحفاظ على الخصائص الفنية لكل جنس من الأجناس الأدبية، حتى لا يستحيل بعضها
إلى بعض وتنمحي الفروق بينها.
وتحاول هذه المداخلة أن تقف على حدود
المراوحة بين المعاني الشعرية والمعاني الخطابية في كل من الشعر والخطابة، ورصد
درجة التداخل المسموح بها. خاصة وأن هذا الموضوع أثار إشكالات متعددة لدى القدماء
على الخصوص وحكموا على النصوص الأدبية من منظور يراعي الغاية من الرسائل الموجهة
للمتلقي سواء عن طريق الشعر بوصفه إبداعا قادرا على تغيير سلوك الأفراد، أو عن
طريق الخطابة التي كان لها دور حاسم في استمالة الحشود وإقناعها بفحوى القول
استنادا إلى الحجج والعواطف والأسلوب.
1_ بلاغة الإقناع: الخطابة.
الحديث عن
الخطابة عموما حديث عن الإقناع. وقد عرفها أرسطو بقوله:" الريطورية قوة تتكلف
الإقناع الممكن في كل واحد من الأمور المفردة"[1]. أي
إن الخطابة ملكة نفسانية يمتلكها الخطيب ويستطيع بوساطتها أن يكون مقنعا في
الموضوعات التي يتناولها، ويسعى إلى استمالة المخاطبين. ولذلك فهي تتحدد بمقاصدها
الإقناعية والحجاجية. فكان الحجاج هو أس الخطابة عندما يتعلق الأمر بترجيح الاحتمالات
في الممكن من الأشياء التي يسعى الخطيب إلى تغيير الاعتقاد فيها لدى المخاطب.
ومن
ثمة كان الحجاج الخطابي طريقة في الإقناع تسعى إلى التأثير في المتلقي عن طريق
ترجيح الاحتمالات وتركيم الأدلة الحجاجية، وهي أدلة غير برهانية لأنها ليست قطعية
وإنما تقوم على الظن وعلى المشترك بين الناس مع احتمال أن يكون هنالك ما يعارضها،
بخلاف الدليل البرهاني القائم على اليقين والذي تكون نتائجه ضرورية. كما أن الدليل
الخطابي يرتبط بالمقام ويفتقر إليه بخلاف الدليل البرهاني الذي يعد صوريا ويكتفي
بذاته.
إن الحجاج
الخطابي يسعى إلى توجيه الأفعال بوساطة التأثير، ولذلك يمزج بين العقل والعواطف والانفعالات والأسلوب وهي في مجملها
أمور كامنة في النص أو خارجة عنه ولها صلة بالخطيب أو نوازع المخاطبين مع الالتزام
بالمقام والضوابط المنطقية التي تراعي
انسجام القول وبعده عن التناقض بين المقدمات والنتائج. حتى يتحقق الغرض من الخطبة
وهو:" توجيه الفعل وتثبيت الاعتقاد أو صنعه"[2].
ولذلك عد أرسطو أهم أهداف الحجاج الخطابي " حمل المخاطب على الإذعان والتسليم
وإثارة عاطفته، وجعله يتعصب للفكرة التي يدعو إليها الخطيب[3] .
وليس الغرض منه التبكيت وهزم الخصوم. ولأجل ذلك تمت العناية بأخلاق الخطيب
(الإيتوس) ونوازع المتلقي(الباتوس) وحجاجية اللغة (اللوغوس). وفي استحضار القائل
والمقول إليه روعي أن تكون الحجج مقنعة ليس باعتبارها أدلة منطقية وصورية ومنفصلة
عن المقام ولكن باعتبارها أدلة تخاطب وجدان المخاطب وعقله وعواطفه قصد تحقيق الاستمالة
والانفعال لمقتضى القول. ولذلك رأى هشام الريفي أن الحجاج الخطابي يقوم في إقناعه
على عدة جوانب:" بعضها صوري (أشكال الاستدلال) وبعضها قيمي (المواضع الخاصة)
وبعضها الثالث اجتماعي (أخلاق القائل) وبعضها الرابع نفسي اجتماعي (انفعالات
المقول إليه)"[4]
.
ويتضح من
خلال هذه المحاور الأربعة أن الخطابة يقوم على الاستهواء، وإثارة الانفعالات،
ولذلك كانت المعرفة بنوازع المتلقي جوهرية في الإقناع الخطابي بنفس القدر الذي
تحوزه أخلاق الخطيب، بل إن الدكتور محمد العمري يعتبر أخلاق الخطيب " أقوى
عناصر الإقناع لديه:[5]
.وجملة الأمر في الحجاج الخطابي أنه يقع في المظنونات وكل ما هو واقع في دائرة
المحتمل، ولذلك يحتاج الخطيب التركيم الأدلة قصد ترجيح الاحتمالات، وهو ما أطلق
عليه بلاغة الرجحان .
2_ بلاغة الإمتاع: الشعر.
إذا كان
الحديث عن الخطابة حديثا عن الإقناع، فإن الحديث عن الشعر كلام في الإمتاع. لأن
الغاية الأولى من القول الشعري ليس توجيه الأفعال وإنما إثارة الانفعالات نتيجة
للتأثير البلاغي والجمالي للقول. وقد حرص النقاد على جعل الجوانب الفنية في القول
الشعري تحتل الصدارة، ويهمنا منها ما يتعلق بصور تقديم المعنى، على اعتبار أن
الشعر صناعة من الصناعات التي تهتم بالانتظام الخارجي للكلمات[6]، دون المس بالمعنى المشترك مع النثر. وقد ذهب بعض
النقاد إلى حد المطالبة بالتفكير في الموضوع نثرا قبل إلباس المعاني الألفاظ التي
تليق بها. مما يعني اشتراكهما في المعاني واختلافهما في صور تقديمها[7] .
والحديث
عن استحضار المعاني يضمر استحضار المتلقي، لأن ربط الكلام بالمقام هو من أهم
الخصائص التداولية في الشعر.وهذه الجوانب وإن كانت معتمة في كثير من الأحيان إلا
أنها واردة لدى الشعراء، ونبه عليها النقاد، ومن ذلك ما ذهب إليه ابن وهب في
البرهان عندما طالب الشاعر أن يناسب بين المعاني الجدية والمعاني الهزلية وما يليق
بكليهما فلا يكسو الجدية ألفاظا هزلية ولا الهزلية ألفاظا جدية فيستوخمها سامعها[8]. ولا نكاد نجد ناقدا يتناول الإمتاع الشعري بمعزل عن
التأثير البلاغي وعن الرسالة التي يمكن للشعر أن يؤديها بالنظر إلى قدرته على
النفاذ إلى العقول والعواطف. وقد ارتبطت الجودة بالتزام العمود الشعري والقدرة على
إصابة المعنى فتمت المزاوجة بين الشكل والمضمون أو لنقل بين البناء والبلاغة. فكان
الحديث عن شكل القصيدة مدخلا للحديث عن معارض المعنى. حتى إن الحديث عن الخيال لدى
المتأخرين_خاصة حازما القرطاجني_ كان مسيجا بهذه العلاقة الوطيدة بين شكل القصيدة
ومضمونها، فقال جازما إن الشاعر:" لا يخلو من ان يكون مثبتا لشئ أو مبطلا له
أو مسويا بين شيئين أو مباينا بينهما أو مرجحا أو مشككا"[9]. وقد بدأنا بهذا النص قبل النظر في تعريفة للشعر كي
نثبت أن الشعر لدى حازم لا يخلو من رسالة يحملها وأن الحديث عن الإمتاع بمعزل عن
الإقناع لا يتحقق في كلام يراد منه الإثبات أو الإبطال أو التسوية أو التعارض. وهذه
الركائز من أهم المداخل الحجاجية في القول عموما. فالحجاج يقوم على إنشاء أو تغيير
أو تثبيت الاعتقادات.
وحتى
الكلام عن التخييل لا يخرج عن دائرة التأثير في المتلقي تأثيرا عاطفيا، ولذاك جعل
القرطاجني المتلقي من أولويات القول الشعري، ليس فقط بإمتاعه بجودة الصياغة ولكن
بجعله منصاعا لمقتضى القول. وجاء تعريفه للشعر متضمنا للمقام الخطابي فقال هو :" كلام موزون ومقفى من شأنه أن يحبب
للنفس ما قصد تحبيبه إليها، ويكره إليها ما قصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلب الشيء
أو الهرب منه بما يتضمن من حسن تخييل له ومحاكاة مستقلة بنفسها أو متصورة بحسن
هيأة تأليف الكلام"[10] .
والقارئ
لهذا التعريف يخرج بعدة خلاصات أهمها:
_ أن قوام الشعر هو الخيال بالإضافة إلى ما تعورف عليه
من الأمور الشكلية كالوزن والقافية.
_تآزر الوزن والقافية والخيال في إحداث التأثير المرغوب.
_امتلاك الشعر القدرة على مخاطبة النفوس وتغيير الاعتقادات.
وهذه الخصائص تجعل الشاعر والقصيدة والمتلقي في دائرة
الضوء بدرجة الأهمية نفسها، وتجعل القصيدة ثلاثية المنازع: منزع خاص بالشكل وهو
المتعلق بالوزن والقافي، ومنزع خاص بالمبدع وهو الموصول بالخيال، وثالث مرتبط
بالمتلقي وهو المقصود بمخاطبة النفوس والدفع بها إلى طلب الشيء أو الهرب منه.
وبمقدار تماسك هذه الأطراف تتحقق الجودة ويتقوى التأثير.
ولا يختص
التخييل لدى حازم بركن من أركان القصيدة التي دافع عنها النقاد في تعريفاتهم، بل
يقع في المعنى وفي الأسلوب وفي اللفظ وفي النظم والوزن[11]. فما هو التخييل إذن؟
إن مفهوم
التخييل يحيل على العلاقة بين الشاعر والمتلقي من خلال الوظائف التي ينهض بها
الشعر، معرفية كانت أم خلقية. الأمر الذي يجعله مبنيا على الأبعاد النفسية التي
تتصل اتصالا مباشرا بالتأثير الشعري في مخيلة المتلقي، وبالتالي في سلوكه وتجعله
ينزع نزوعا نفسانيا تؤطره طبيعة المحتوى الذي تتغيا القصيدة تبليغه، أي تحريك
النفس إلى طلب الشيء أو الهرب منه من غير روية أو فكر ويلخص هذا قوله في
المنهاج:" أن تتمثل للسامع من لفظ الشاعر المخيل أو معانيه أو أسلوبه ونظامه
وتقوم في خياله صورة أو صور ينفعل لتخيلها وتصورها أو تصرو شيء آخر بها انفعالا من
غير روية إلى جهة الانبساط أو الانقباض"[12]. ويتضح أن الناقد اعتنى بالمتلقي عناية فائقة، كما ربط
الإذعان بجمالية القصيدة على مستوى الخيال واللفظ والمعاني والأسلوب والصورة، لأن الانفعال
، وهو حركة نفسية، يرتبط بصورة تقديم المعاني. وقوة التأثير لا تتأتى إلا بحسن
موقع التخييل من النفوس عندما " يترامى بالكلام إلى أنحاء من التعجيب، فيقوى
بذلك تأثر النفس لمقتضى الكلام"[13]. وخاصية التعجيب هذه متضمنة لدى حازم في موقع آخر من
المنهاج حيث يقول إن التعجيب لا يكون إلا :"باستبداع ما يثيره الشاعر من
لطائف الكلام التي يقل التهدي إلى مثلها"[14].
والمتأمل
لهذه الخصائص لا شك سيقف على مجموعة من الإشارات الدالة على أن النقاد كانوا
يتكلمون عن الشعر في شموليته مبنى ومعنى، لكن مع حرصهم الشديد على صور تقديم
المعنى. لأن الغاية التي يجري إليها القائل والمقول إليه هي المعنى. وطريقة إثبات
المعنى من أهم مزايا القول الشعري، ولذلك كانت عنايتهم بالكناية والاستعارة
والتشبيه والمجاز وغيرها من أساليب البيان. يقول الجرجاني في تفسير مزية
الكناية:" فليست المزية في قولهم "جم الرماد" أنه دل على قرى أكثر،
بل أنك أثبت له القرى الكثير من وجه هو أبلغ، وأوجبته إيجابا هو أشد، وادعيته دعوى
أنت أنطق بها وبصحتها أوثق"[15]. وكذلك شأن الاستعارة والتمثيل، فأن المزية تقع فيهما
عن طريق إثبات المعنى دون المعنى نفسه[16]. وبلوغ المعنى بهذه الوسائل يكون آكد من إيراده دون
دليل يقطع بوجوبه. فاجتمع للشعر التعبير عن المعنى وصور تقديمه بطرائق أبلغ من
المعاني الأول، واختصت الفضيلة ومراتب البلاغة العليا بالنظم،وليس النظم سوى"
أن تضع كلامك الوضع الذي يقتضيه علم النحو وتعمل على قوانينه وأصوله فلا تزيغ
عنها"[17]. ولا يعني توخي معاني النحو التزام الحركات الإعرابية
الصحيحة فقط، وإنما له صلة بالمقام والصياغة والتهدي إلى الأنساق التي تقر بها
الألفاظ قرارها بالنظر إلى ما قبلها وما بعدها. وعندما نتكلم عن المقام وربط الكلام بالسياق نكون في صلب الأبعاد الحجاجية للشعر. لأن الأمر يتعدى مجرد التعبير والاحتفال
باللفظ، إلى تبليغ الرسائل إلى المتلقي قصد التأثير فيه وحمله على الانفعال
والإذعان باعتباره معنيا بالحمولة الفكرية للخطاب. وقد جعل ابن سينا الانفعال
نتيجة لما يلحق الإنسان من أثر التخييل سواء أكان المقول مصدقا به أو غير مصدق.
فالكلام المخيل هو الذي" تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير
روية أو فكر واختيار، وبالجملة تنفعل له انفعالا نفسانيا غير فكري"[18]. والحديث عن الإذعان إشارة واضحة إلى البعد الإقناعي
للشعر. لكن مع ميزة تنضاف إلى هذا الجنس الأدبي وهي قدرتة على مخاطبة العواطف وجعل
المخاطب يستجيب بدون روية او فكر، اي إن الاستجابة للشعر تكون أسرع والإذعان أكبر
لأن الإنسان يضعف أمام العواطف.
وعموما إن
البعد الإقناعي والحجاجي للشعر لا يمكن إغفاله تحت أي ذريعة، لكن الكلام عن الحجاج
الشعري لا ينبغي أن يجعل منه بديلا عن الخطابة، كما أن الكلام عن شعرية الخطابة لا
ينبغي أن تجعل منها بديلا عن الشعر. وقد كان النقاد والفلاسفة واعون بهذا التمايز
بينهما فجعلوا للمراوحة بين المعاني الشعرية والمعاني الخطابية حدودا وفواصل لازمة
للحد من غلواء التداخل بين ما هو شعري وما هو خطابي.
3_شعرية الخطابة وخطابية الشعر:
مر معنا أن
الإقناع هو جوهر الخطابة، والتخييل هو جوهر الشعر، بالإضافة إلى العناصر الشكلية
الضرورية في بناء الأجناس الأدبية. إلا أن الروابط بين الشعر والخطابة لم تنفصم
عراها مع ذلك، فقد تستعين الخطابة بالشعر لبلوغ الإقناع وقد يستعين الشعر بالخطابة
في المحاكاة والتخييل دفعا للرتابة وتجديدا لاستعداد السامع. وكل ذلك مشروط
بالتزام الحدود بين الجنسين الأدبيين حتى لا يستحيل جنس منها إلى آخر ويفقد
خصوصيته التي تميزه.
الشعر
والخطابة قسمان من أقسام المنطق لدى الفلاسفة. إلا أنهما يتمايزان فالشاعر يروم
التخييل فيما الخطيب يسعى للإقناع. وقد حكم هذا التصور نظرة الفلاسفة المسلمين إلى
هذين الجنسين الأدبيين، وكان هذا الفارق أساسيا للنظر في الوسائل الشعرية
والخطابية وتقنين حدود التداخل على الرغم من أن الهدف في كلتا الحالتين لا يحيد عن
إعمال الحيلة في إلقاء الكلام موقع القبول من النفوس حتى تتأثر لمقتضاه. يقول
الفارابي في هذا الصدد: إن "الخطابة تستعمل شيئا من المحاكاة يسيرا، وهو ما
كان قريبا جدا واضحا ومشهورا عند الجميع، وربما غلط كثير من الخطباء الذين لهم من
طبائعهم قوة على الأقاويل الشعرية فيستعمل المحاكاة أزيد مما شأن الخطابة أن
تستعمله، غير أنه لا يوثق به فيكون قوله عند كثير من الناس خطبة بالغة، وإنما هو
في الحقيقة قول شعري قد عدل به عن طريق الخطابة إلى طريق الشعر. وكثير من الشعراء
الذين لهم قوة على الأقاويل المقنعة يضعون الأقاويل المقنعة ويزنونها فيكون ذلك
عند كثير من الناس شعرا وإنما هو قول خطبي قد عدل به عن منهاج الخطابة، وكثير من
الخطباء يجمع بين الأمرين جميعا، وكذلك كثير من الشعراء، وعلى هذا يوجد أكثر
الشعر."[19]. ويتضح من خلال هذا النص أن الفارابي يجعل عملية الاسترفاد
أمرا مشروعا شريطة أن تظل الحدود الفاصلة بين الجنسين قائمة. فالخطابة يمكنها أن
تمتاح من المحاكاة الشعرية لكن شريطة أن يكون الأخذ قريبا وواضحا ومشهورا عند
الجمع. وهي مسـألة مهمة في الإقناع، فإن غرض الخطيب ليس هو إيقاع الغموض، بل إيقاع
الظن موقع التصديق بحسب الأحوال والاحتمال,
ولأن
المحاكاة بما هو بعيد يعيق العملية التواصلية والتأثيرية بالنسبة للجمهور، ويقف في
وجه الإفهام، فإن توظيف هذا الأسلوب خاص بالشعر حيث تتعدد التأويلات حسب درجة الإدراك
لدى المتلقي، واستثماره في الخطابة يجعل من طبيعة القول أمرا غير موثوق به يشي
بالتعمل في التعبير والجري وراء التعجيب، بالإضافة إلى أنه ينقل الكلام من حقل
الخطابة إلى جنس الشعر وهو ما اعتبره الفارابي من
"الغلط" الكثير لدى الخطباء الذين لهم من طبيعتهم قوة على
الأقاويل الشعرية.
إن هذا الاستعمال
الزائد للمحاكاة في الخطابة أكثر مما شأنها أن تستعمله يكون لدى كثير من الناس
خطبة بالغة _حسب الفارابي_ لكنه في الحقيقة قول شعري قد عدل به عن مساره. وهي فكرة
جوهرية تجعل المحاكاة ميزة أساسية للتفريق بين الشعر والخطابة.
كما نخلص من
هذا النص أيضا أن القول يحمل صفة الشعرية على الرغم من فراغه من الأوزان، أذ جعل
تلك الصفة للقول الخطبي الذي يستعمل المحاكاة أكثر مما شأنه أن يستعمله، حتى عد قولا
شعريا عدل به عن طريق الشعر إلى طريق الخطابة. ويقابل هذا الصنف من الخطباء صنف من
الشعراء لهم القدرة على الأقاويل المقنعة فتنعكس على أشعارهم فيكون قولهم قولا
خطبيا عدل به عن منهاج الخطابة.
إن الفروق
بين هذه الأجناس ترتد إلى هيمنة وظيفة معينة على مكوناتها،ويكون تركيز تلك الوظيفة
ضروريا لتحقيق التواصل وحصل التصديق بناء على مقدمات تخييلية في الشعر أو يقينية
في البرهان أو ظنية في الجدل أو إقناعية في الخطابة. والحديث عن التخييل لا يجعل
من الشعر وحده مصدر إثارة للعواطف، فالخطابة تقوم بذلك الدور أيضا، فهي لا تكتفي
بالعرض والدليل، بل تستعين بالمقومات الشخصية للخطيب في تحقيق الإقناع وهي أمور
خارجة عن النص. بالموازاة مع مع الأسلوب الخطابي القائم على التصديق والخاضع
لمقتضيات المقام والميال إلى تخييل المعنى بمقدار الحاجة مع تجنب الغموض لأن
الغموض لا يستعمل مع من يراد إقناعه، لكن الاقتصاد في تخييل المعنى لا يعني أن
يكون الكلام مبتذلا، لأن ذلك يزيل الهيبة التي يكتسبها القول بالتغيير. وقد قسم
ابن رشد الألفاظ إلى عدة أقسام منها " المستولية ومنها المغيرة ومنها الغريبة
ومنها اللغات ومنها المزينة ومنها المركبة ومنها المغلطة ومنها الموضوعة"[20]. واعتبر
المغيرة من ضمن هذه الأقسام أشد نفعا في الصناعة الشعر والخطابة، ويقتضي التغيير أن يستعمل لفظ ما في غير ما
وضع له في الحقيقة[21]. والتغيير يرتبط بإفهام المعنى وإحداث الغرابة واللذة
فيه وهو يستثمر تقنيات المجاز بصفة عامة في التواصل.
إن مراعاة
أحوال المتلقين ومقتضيات التبليغ قصد إفهام المخاطب وإيقاع الاعتقادات موقع
التصديق تحتم على الخطيب التزام الأساليب الواضحة
وتخييل المعنى بقدر الحاجة واجتناب الغموض لأن الغموض لا يستعمل مع من يراد
تبصيره، ولكن يتوسل به مع من يراد حجب المعنى عنه وإغماضه[22].
والاقتصاد في تخييل المعنى في الخطابة لا يعني أن يكون
الكلام مبتذلا، كما أن الإغراق في التغيير ينأى بالخطيب عن حقل الخطابة. وقد ميز
الفلاسفة بين نوعين من الناس : الجمهور أو العوام، والخواص أو الحكماء.
فأما
العوام فمن شأنهم أن لا يقع لهم التصديق إلا عن طريق التخيل فهم لا يصدقون بالشيء
" إلا من جهة ما يتخيلونه، يعسر وقوع التصديق لهم بموجود ليس منسوبا إلى شيء
متخيل"[23]. ولما كان التخييل يقوم مقام التصديق البرهاني في بلوغ
الهدف من العوام كان أنفع لهم من البرهان" فالناس أطوع للتخيل منهم للتصديق،
وكثير منهم إذا سمع التصديقات استكرهها وهرب منها. وللمحاكاة شيء من التعجيب ليس
للصدق"[24].
وكان هذا
التصور هو أساس التفريق بين ما يوجه للعوام وما يوجه للخواص. فإذا لزم ألا يتجاوز
الخطيب حدود ما تقتضيه صناعة الخطابة في مواجهة الجمهور، فأن ذلك يكون بخلاف الأمر
في الشعر والخطب التي تسعى إلى إقناع الخواص من الناس. كما أن الخاصة لا يمكن
تغليطها بالتخييلات بل يتم إقناعها بالتصديقات البرهانية.
ولا ضير إن
استعمل الخطيب قليلا من الخيال في التعبير شريطة ألا يكون مهيمنا. لأنه يجب أن
يراعي خصائص القول الخطبي. فإن الخطابة تستعمل يسيرا من الخيال والشعر يستعمل
يسيرا من الإقناع. فإن الخطيب يحتاج إلى بعض الأساليب الشعرية بين الفينة والأخرى
تفيده في تصوير المعنى حتى يقلل من رتابة الإقناع كما أن الشاعر يحتاج إلى بعض
الأساليب الإقناعية حتى يضمن لشعره ما وسمه حازم القرطاجني بالمراوحة بين المعاني.
4_المراوحة
بين المعاني الشعرية والمعاني الخطابية.
يندرج كل
من الخطابة والشعر عند حازم القرطاجني ضمن علم البلاغة ويشتركان في مادة المعاني
ويفترقان بصورتي التخييل والإقناع[25]. والقصد من التخييل والإقناع هو" حمل النفوس على
فعل شيء أو اعتقاده أو التخلي عن فعله واعتقاده"[26]. وقد كانت جذور هذه الفكرة مستمدة من الحقل الفلسفي،
خاصة فيما يتعلق بجوهر العملية الشعرية والخطابية. وإذا كان الفارابي قد نظر إلى
عملية الاسترفاد بين الشعر والخطابة من زاوية تجعل تجاوز الحدود الفاصلة بينهما ،
فيكون القول الخطبي المغرق في المحاكاة قولا شعريا قد عدل به عن طريق الشعر إلى
طريق الخطابة، والقول الشعري المغرق في الإقناع قولا خطبيا قد عدل به عن طريق
الخطابة إلى طريق الشعر، فإن حازما القرطاجني
استثمر هذه الفكرة هو الآخر فقال إن ما كان :" من الأقاويل القياسية مبنيا على تخييل موجودة
فيه المحاكاة فهو يعد قولا شعريا، سواء أكانت مقدماته برهانية أو جدلية أو خطابية
أو يقينية أو مشتهرة أو مظنونة، وما لم يقع في ذلك بمحاكاة فلا يخلو من أن يكون
مبنيا على الإقناع وغلبة الظن أو يكون مبنيا على غير ذلك، فإن كان مبنيا على
الإقناع خاصة كان أصيلا في الخطابة دخيلا في الشعر سائغا فيه، وما كان مبنيا على
غير الإقناع مما ليس فيه محاكاة فإن وروده في الشعر والخطابة عبث وجهالة."[27]. ويبرز هذا النص لحازم القرطاجني حدود التداخل الممكن
بين الشعر والخطابة. وهو يجعل المحاكاة والتخييل فيصلا بين الجنسين. وسواء أكانت
القول برهانيا قائما على المقدمات اليقينية أو جدليا قائما على المقدمات المشهورة
أو خطابيا قائما على المقدمات الظنية فإن بناءة على التخييل والمحاكاة يحيد به عي
أصله وتوجهه ويجعل منه قولا شعريا، لكن كونه قولا شعريا لا يطمس أصله، بدليل قول
القرطاجني إنه يكون أصيلا في جنسه ودخيلا في جنس الشعر. وهو ما يعني أن الإغراق في
استقدام المحاكاة إلى الخطابة مثلا يجعل المادة المهيمنة طاغية على الأصل من القول
ويؤدي به إلى فقدان واحدة من أهم خصائصه ألا
وهي المقصد الإقناعي. وهذه الدعوى لدى حازم تدل أيضا على أن الفرق بين هذة
الأجناس يكمن في المحاكاة والتخييل. كما أن الغرض من القول المبني على التخييل
وغيره المبني على الإقناع هو حمل النفوس على الإذعان. لكن الاشتراك في هذا المطلب
لا يجعل منها جنسا موحدا. بل إن التخييل لا يناقض اليقين بحيث يمكن أن يخيل الشيء
على حقيقته، ومن ثمة لا يكون في الكلام صدق أو كذب، فيما الكلام المقنع متى لم
يعدل به إلى جهة الصدق لا يكون فيه إلا الظن الغالب، والظن مباين لليقين على حد
تعبير القرطاجني في موقع آخر[28].
ولا يشترط
حازم في القول الشعري غير التخييل والمحاكاة، ومتى كان القول متوفرا عليهما لم
يلتفت إلى طبيعة المقدمات سواء أكانت برهانية أم جدلية أم خطابية أم يقينية أم
مشتهرة أم مظنونة.
ومتى توفرت المحاكاة والتخييل وبني الكلام على الإقناع
كان أصيلا في الخطابة دخيلا في الشعر، لكن أصالته في الخطابة لا تنزع عنه صبغة
الشعر بدليل أن حازما أضاف عبارة جوهرية جعل بها أصالة هذا النمط في الخطابة
ودخوله في الشعر " سائغا فيه"، أي إن القول المبني على الإقناع في حالة
توفر المحاكاة والتخييل يعد قولا شعريا.
وهو ما يسوغ
انضمام بعض الخصائص الخطبية إلى الشعرية وتبعية الأولى للثانية بشرط توافر
المحاكاة والتخييل. ولا يسوغ القول في الخطابة متى عري من الإقناع، بل إن بناءه
على غير الإقناع مع غياب المحاكاة يعد وروده في الشعر والخطابة معا " عبثا
وجهالة". فالشعر لدى حازم بالمنظور السالف " يقبل من الخطابة بمقدار،
ويظل على ذلك قولا شعريا"[29]. وهو بذلك يستطيع أن يجمع ما تفرق في أقسام المنطق لكن
بقصد. فقد تقع فيه الأقوال الصادقة، وقد تقع فيه الأقوال الكاذبة، وقد تقع فيه
الأقوال المقنعة، دون أن يختل جوهره متى تمسك بالمحاكاة والتخييل.
وقد أدرك حازم
ذلك جيدا، إذ رآى أن الشعر _على اختصاصه بالتخييل_ يشارك الصنائع الأخرى ما تختص
به[30]. وهي ميزة يفرده بها حتى يضمن له أن يكون وقعه في
النفوس_ بسبب التخييل_ أقوى مما سواه من الأقاويل التي تسعى إلى إنشاء الشيء أو
إثباته أو نفيه أو تغييره. لكن مشاركة الصنائع الأخرى في ما تختص به لا ينبغي أن
تجني على تفرده بالإغراق في استعمال هذه الخصائص. فحمل النفوس على الإذعان ينبغي أن
يكون بقصد في حال توسل الشاعر بآليات الخطابة، بل" إن صناعة الشعر تستعمل
يسيرا من الأقوال الخطابية كما أن الخطابة تستعمل يسيرا من الأقوال الشعرية،
لتعتضد المحاكاة في هذه بالإقناع، والإقناع في تلك بالمحاكاة، وإنما يعاب على
الشاعر إذا كان أكثر أقاويله أو ما قارب مساواة الباقي بزيادة قليلة أو نقص
خطابية، والخطيب إذا كانت أكثر أقاويله أو ما قارب المساواة بزيادة قليلة أو نقص
شعرية، فأما إذا استعملت إحداهما الأقل من الأخرى فإن ذلك يحسن لاعتضاد إحداهما
بالأخرى وإراحة النفس وجمومها لتجدد الأقاويل الشعرية بعد الخطابية والخطابية بعد
الشعرية عليها وإجمامها بالواحد لتلقى الآخر"[31]. إن هذه الفكرة عند القرطاجني تؤسس للتداخل المقنن بين
الشعر والخطابة، وتضع الحدود والفواصل بينهما حتى لا يستحيل جنس منها إلى آخر. وكل
ذلك خدمة لخصائص التفرد التي تميز الأجناس الأدبية، ومراعاة لطبيعة التلقي إذ إن
للسامع مللا وضجرا إذا طالت عليه أقوال من صنف واحد، ولا يريحه منها سوى اعتضادها
بغيرها من الأقوال. وهو إذ يتناول التداخل بين الشعر والخطابة، يعمل جاهدا على
خدمة إعمال الحيلة في إلقاء الكلام موقع القبول من النفوس حتى تتأثر لمقتضاه وتذعن
له.
وهذا المطلب
هو الذي جعله يجيز للشاعر أن يخطب لكن في الأقل من معانيه وللخطيب أن يشعر في
الأقل من كلامه على جهة الإلماع في الموضع بعد الموضع[32]. الأمر الذي وسمه بالمراوحة بين المعاني الشعرية
والمعاني الخطابية.وهي مراوحة يتغيا بها تنويع الأسلوب وتجديد استعداد السامع.
ومتى كان التنويع بقصد لقي استحسان المتلقي، لأن " الشعر المراوح في معانيه
أفضل من الذي لا مراوحة فيه، والخطبة التي وقعت المراوحة بين معانيها أفضل من التي
لا مراوحة فيها"[33].
وصفة
المراوحة هذه تقتضي تبعية الأقاويل المخيلة في الخطابة للأقاويل المقنعة،
والأقاويل المقنعة في الشعر للأقاويل المخيلة، وأن تؤكد كلتاهما معنى التي تكون
تابعة لها، وتعضد مقصدها، فتكون بذلك المتبوعة بمثابة الجوهرية والتابعة بمثابة
الثانوية في كلتا الحالتين[34]. ويبدو أن حازما كان ينظر للمراوحة بين المعاني وقد
ترسخت في ذهنه فكرة السامع الذي يكون مقبلا على المتكلم حيث يكون التعبير شفاهيا.
وقد سبق لابن وهب الكاتب أن ربط بين الخطابة والخطاب على اعتبارهما شكلين شفاهيين
يرتبطان بالمقام، وعنده إن " الخطابة والخطاب اشتقا من الخطب والمخاطبة
لأنهما مسموعان"[35].
وأخيرا إن
حازما يصدر _من خلال بحثه في المراوحة بين المعاني_ عن رؤية تجعل للشعر غايتين:
_ غاية
إقناعية: يستغل بموجبها قدرة الشعر على التبليغ والتأثير.
_ غاية
إمتاعية: وتتمثل في قدرة الشاعر على صياغة المعاني بأسلوب يكرس جمال اللغة وقدرتها
على التعبير.
ولأن الإقناع هو جوهر الخطابة فإنه بذل جهدا كبيرا كي
يجد لهذه الخاصية مكانا مريحا داخل النص الشعري بأن عد الشعر المراوح في معانيه
خير من الذي لا مراوحة فيه، وهي دعوة ضمنية للشعراء كي يتبنوا مقاصد يدافعون عنها
ويسعون إلى تبليغها، وأن يراعوا في ذلك إرضاء ذوق المتلقي واعتماد ما يصغي إليه
ويفهمه. مما يعني أن الشعر يمكنه أن يقوم ببعض أدوار الخطابة وأن ينجح فيها دون أن
يتخلى على خصائصه المميزة.
5_ بلاغة الإلقاء بين الشعر والخطابة.
يرتبط الإلقاء بالإقناع ارتباطا وثيقا. ونال من عناية
النقاد مكانة كبيرة خاصة عند الجاحظ. والإلقاء من أهم مراحل الإنجاز الخطابي.
ويحوز نفس المرتبة التي حازها الاستدلال والأسلوب الخطابيين. وأهميته في كونه
معرضا للمعاني من خلال العبارة والإشارة والهيئة والسمت. وغيرها من الأمور
المصاحبة لأداء المعنى في المعرض الذي يليق به. فالتلقي في الشعرية العربية إنشاد
وإلقاء، كما في الشعر والسمر بالأحاديث، وهذا الأداء يضيف عنصرا آخر إلى مجاز
الكلام وانزياحه عن المألوف[36]. ومن
شروطه معرفة المتكلم أقدار المعاني والموازنة بينها وبين أقدار المستمعين حتى يكون
المعنى قريبا عند الخاصة إن قصدت الخاصة وعند العامة أن قصدت العامة.[37]. وهي
الفكرة التي دافع عنها الجاحظ وربطها بالبيان إذ جعل منه كل شيء " كشف لك
غطاء المعنى وهتك الحجاب دون الضمير، حتى يفضي السامع إلى حقيقته ويهجم على محصوله
كائنا ما كان ذلك البيان، ومن أي جنس كان الدليل، لأن مدار الأمر والغاية التي
يجري إليها القائل والسامع إنما هو الفهم والإفهام."[38].
وقد اعتنت
الشعرية العربية بالإلقاء نظرا لأهميته في التواصل الشعري والخطابي على السواء.
خاصة ما تعلق بفصاحة المتكلم وعلاقة الشعر بالإنشاد والغناء، وينفرد الإلقاء
بإبراز هذه الخاصية أو طمسها. إذ لا يكفي أن يكون المرء ملما بالأساليب قادرا على
تطويع اللغة ومنحها حياة أفضل مما تعيشه داخل القواميس، بل تلزمه القدرة على
أدائها وإيصالها إلى المتلقي في حلة قمينة بها، زادها اللغة والأسلوب وأداتها
الصوت والإيقاع، حتى يتحقق ما سمي بمراعاة المقام ومطابقة الكلام لمقتضى الحال.
لذلك وجب على البليغ أن يكون واعيا بمقامات الكلام ومستويات المتلقين وقادرا على
مخاطبتهم. ويعد هذا الربط بين اللغة والمقام من صميم التداول البلاغي ذي الصلة
بالمعني التي تحوزها اللغة في مختلف المواقع. يقول الجاحظ في هذا الصدد وقد جعل من
الاستمالة محورا من محاور الإلقاء ووسيلة لتحقيق الإقناع" والبيان يحتاج إلى
تمييز وسياسة وإلى ترتيب ورياضة وإلى تمام الآلة وإحكام الصنعة، وتكميل الحروف
وإقامة الوزن، وان حاجة المنطق إلى الحلاوة والطلاوة كحاجته إلى الجزالة والفخامة،
وأن ذلك من أكثر ما تستمال به القلوب وتثنى به الأعناق وتزين به المعاني."[39].
ويتضح أن مفهوم الفصاحة لدى الجاحظ واسع الدلالة متعدد المسارب تتآزر فيه اللغة
والأداة وتتحكم فيه الوظيفة الإبلاغية
بشكل محوري، ومتى اختلت الأداة كان البيان والتبيين أعسر.
وقد حدد
تبعا لذلك عيوب الإلقاء المعيقة للتواصل والتبليغ، وهي ذات صلة بالصوت أولا
وأخيرا. ولم يكن فصله للصوت عن التأليف إلا مسألة إجرائية حتى يتمكن من الوقوف على
مظاهر اللحن التي تعد خرقا للنظام الداخلي للجملة[40]. وهو
ما يعني أن المعبر عنه "لا يمكن أن يكتسي صبغة الأثر الجمالي إلا إذا أدخلنا
في الاعتبار نظامه الصوتي، كما أن التأثير على المستمع أو القارئ يعود في أكثره
إلى هذا النظام"[41].
وهذا الرأي
يستوجب أن تتوافر في الخطاب الفني عموما_ بالإضافة إلى عناصره التركيبية_ عناصر
صوتية ترقى به من مستوى التواصل العادي الذي تتيحه اللغة اليومية والتي يراد بها
الإفهام وحده، إلى مستوى التأثير عن طريق الاستعانة بالأصوات. ولا جرم فإن "
أجود الشعر ما رأيته متلاحم الأجزاء، سهل المخارج، فلتعلم بذلك انه أفرغ إفراغا
واحدا، وسبك سبكا واحدا فهو يجري على اللسان كما يجري الدهان"[42].
وبهذا يتضح
أن الإلقاء جزء من فصاحة الكلمة ويمكنه أن يرتفع بها إلى مدارج البلاغة العليا أو
يهوي بها إلى مدارك الخلل، مما يجعل من استحضار المتلقي ومقاصد الاستمالة عناصر
إضافية لا يمكن التغافل عن قيمتها في العمل الإبداعي وهو ما يعني أن الإقناع كامن
في الشعر كما في الخطابة، فالكلام لا يلقى جزافا وإنما لغاية بلاغية وتداولية
وحجاجية. كما أن الإلقاء لصيق بالإثارة العاطفية للجمهور والدور الذي يقوم به
" يمكن أن يحجب عن الأنظار الضعف الحجاجي المنطقي الذي يحظى بالسبق في
الخطابة الجيدة"[43]. ومن
ثمة حاز الصوت قصب السبق في في أداء الفعل الخطابي والشعري وتشخيص الانفعالات.
وليس هناك أخطر على الحجة وإدراك الحاجة من العي. كما أن الإلقاء لا يقتصر على
قدرة الشاعر والخطيب على الأداء السليم للغة، ولكن العناية بالمظهر أساسية في
النفاذ إلى العقول والقلوب.مما يعني أن مظاهر الإقناع الخطابي ملازمة للشعر ومياسم
الإمتاع الشعري ملازمة للخطابة. حكى إن الجاحظ قال " وزينة البلاغة أن تكون
الشمائل موزونة والألفاظ معدلة واللهجة نقية. فإن جامع ذلك السن والسمت والجمال
وطول الصمت فقد تم كل التمام"[44]. وقد
استغل الشعراء مظاهر الإلقاء في الاستمالة وتحسين التواصل.
لائحة
المصادر والمراجع:
1.
إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ط4، دار الثقافة،بيروت 1983.
2.
إدريس بلمليح، الرؤية البيانية لدى الجاحظ،ط1، مطبعة
النجاح الجديدة،1984.
3.
أرسطوطاليس
الخطابة، تحقيق : عبد الرحمـن بدوي، مكتبة النهضة المصرية، القاهرة 1959.
4.
جابر عصفور، مفهوم الشعر، ط3، دار التنوير، بيروت، 1983.
5.
الجاحظ، البيان والتبيين، تحقيق عبد السلام هارون، دار الفكر، 1948.
6.
الجرجاني عبد القاهر، دلائل الإعجاز، قرأه وعلق عليه محمود شاكر، مطبعة
المدني 1984.
7.
ابن رشد، أبو الوليد، تلخيص الخطابة، تحقيق سليم محمد سالم، لجنة إحياء
التراث، مصر 1976.
8.
ابن رشد، أبو الوليد، فصل المقال،علق عليه ألبير نصري، ط3،بيروت،1973.
9.
ابن رشيق القيرواني، العمدة في محاسن الشعر وآدابه، تحقيق محيي الدين عبد
الحميد،ط4، دار الجيل بيروت، 1972.
10.
ابن سينا، فن الشعر من كتاب الشفا ضمن فن الشعر لأرسطو،تحقيق بدوي،ط2، دار
الثقافة، بيروت، 1973.
11.
ابن الأثير ضياء الدين، المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق أحمد
الحوفي وبدوي طبانة، ط1ـ مطبعة نهضة مصر،
12.
ابن طباطبا العلوي، عيار الشعر، تحقيق عباس عبد الساتر،دار الكتب العلمية،
بيروت، 1982.
13.
ابن وهب، البرهان في وجوه البيان، تح، حنفي محمد شرف،
مطبعة الرسالة، مصر، 1969.
14.
العمري محمد، في بلاغة الخطاب الإقناعي، ط1، دار الثقافة، الدار البيضاء،
1986.
15.
الفارابي أبو نصر، إحصاء العلوم، مركز الإنماء القومي،لبنان، 1991.
16.
الفارابي أبو نصر، كتاب الشعر، تحقيق محسن مهدي،ضمن مجلة شعر،العدد12،1952.
17.
قدامة ابن جعفر، نقد الشعر، تحقيق محمد عبد المنعم خفاجي،دار الكتب
العلمية، بيروت.
18.
القرطاجني حازم، منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق محمد الحبيب بلخوجة،
مكتبة المدرسة ودار الكتاب اللبناني، 1975.
19.
زراقط عبد المجيد، موقع المتلقي من الظاهرة الأدبية، مجلة
الآداب،عدد9/10،1998.
20.
أبو زهرة محمد ، الخطابة، أصولها، تاريخها في أزهر
عصورها عند العرب، دار الفكر، القاهرة، (د_ت).
21.
هشام الريفي، الحجاج عند أرسطو، ضمن أهم نظريات الحجاج
في التقاليد الغربية، إشراف حمادي صمود، سلسلة آداب، مجلد 39.
22.
الولي محمد ، الاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية،
دار الأمان الرباط 2005.
[2] _هشام الريفي، الحجاج عند أرسطو، ضمن أهم نظريات الحجاج في
التقاليد الغربية، إشراف حمادي صمود، سلسلة آداب، مجلد 39، ص: 122.
ص:89.
ص:90.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire